: | ||
عـناق الفـردوسي والأرضـي! | ||
د.حسام عقل | ||
جسدت لعبة المفارقة واحتضان النقائض انشغالاً تقنيًا ناصعًا في التجربة. وأفصحت اللعبة عن ذاتها مبكرًا في العنوان ذاته: "أصدق شمس الشتاء" حيث تألقت حقيقة "الضدية" بين حرارة الشمس ودفئها من وجه، وصقيع الموسم المناخي وبرده اللاذع من وجه آخر. وتسربت المفارقة لاحقًا إلي مظاهر المعجم وتجلياته، فضلاً عن نسيج الصورة الشعرية ورفيف الرموز الطّافرة. وقد غلبت علي التجربة في شريحتها المؤثرة الولاءات الرومانتيكية بطابعها المخملي الفخيم، كما غلب علي قسم كبير من الصور "روح صوفي" شفيف لا تخطئه العين. ولا أحسبني متزيّدا إذا قلت إن قسما وافرا من قصائد الديوان يتقمص، بإجمال، "أجواء علوية" استدعت عوالم البرزخ ومشاهد الآخرة، بهلعها وسحرها، بما غذّي بالتراكم الدلالي لونا من ألوان التناص مع "رحلة المعراج" تألق في خلفية المشهد بنصوع. فكانت التجربة الشعرية الماثلة، في أنساقها الكبري، تتمة وامتدادا للأدب المعراجي الذي عرفته فنون القول بدءا من كوميديا "الضفادع" لأرسطوفانيس ووصولا إلي ومضات أبي العلاء الساخرة في "رسالة الغفران" أو مطهر دانتي في كوميدياه الإلهية الشهيرة أو لوحات ملتون الحارة في فردوسه المفقود. إن مسعي الذات الشاعرة في التطهر بالعروج أو الصعود، قد طبع آثارا غائرة علي الأداء اللغوي بإجمال، فلم يكن عجيبا أن تهيب القصيدة بلغة القرآن وتغذو من منابعها الرقراقة بلون من التوسع. ولم نلبث أن تبيّنا أن جنان الذات الشاعرة وفراديسها ليست علوية أو مركوزة في الملأ الأعلي كما سبق إلي الوهم، بل إنها في الجوهر أرضية متجذّرة في هذا العالم الطيني، مغموسة في أديمه: "كأس البحر اندلقتْ في قلب العالم نافورة خمر/ سارت في أضلعه وهجا/ واتقدت وقدهْ/ يجري الموج ويجري/ حتي يمهد للدنيا دربا من فيروز محبته/ ويمدّهْ". وعلي هذا النحو انفرجت، بقوة، مساحة المفارقة بين "الطيني" و"العلوي" وتشربت القصيدة في أجوائها سِمَة "تداخل العوالم". وهو ما حمل في تذييل المشاهد ما أسماه الناقد الألماني الكبير "روبرت ياوس": "كسر أفق التوقع". إيقاعيا، اكتظت جعبة الشاعر بفنون المناورة الصوتية، وتألقت البراعة الموسيقية في القدرة علي حشد فونيمات صوتية بعينها (متماثلة أو متقاربة المخرج) بتكديسها في مقطع واحد بما يخلق في الحواشي إيحاء صوتيا تلتقطه الأذن سريعا. وتنماز المنطلقات الرومانتيكية هنا بسمة تباعد بينها وبين مثيلاتها في مطالع القرن الماضي. وهي حفول التجربة "بدلالة اجتماعية" تجاوز بها تخوم الطابع الفردي إلي الأفق الجماعي الناضج الحافل بالكفاح. وتوثقت من، جهة أخري، جدائل الصلة الوثيقة بين القصيدة والآماد الطبيعية والكونية الرحبة، فاستوحت الصورة الشعرية مفردات المروج والأنهار واشرأبت، باستيحائها الشامل، إلي كواكب الفلك ونيازكه وأقواس مجراته. وهو ما تجسد بوضوح في قصيدة "تبيعين لي كوكبا في السما". وبرغم الإقرار بأن طائفة من الصور الشعرية اختنقت بانقطاع النفس الكتابي، وكنا نرجو لها كمال الاستواء والنماء، فإن عمر حاذق، في باكورة منجزه المطبوع، قد منحنا انطباعا لا سبيل إلي دفعه بأن الميلاد كان باذخا بحق، مفعما بالقوة والبهاء. |