ذاكرة الأدب




بداية الرواية في 'البيان' تنبيء عن وحدة افتتاح دنيا


الرواية الجزائرية المعاصرة كانت أسيرة لقصة العنف التي عاشتها الجزائر، فلم تستطع الخروج عن دائرة العنف.

ميدل ايست اونلاين
كتب ـ أحمد فضل شبلول

يرى الناقد المغربي د. عبدالمالك أشهبون أن النقد العربي لم يعر اهتماما كبيرا لموضوع "البداية" في الرواية التقليدية منها والجديدة، فباستثناء قلة قليلة من الدراسات (وأغلبها عبارة عن مقالات) التي غامرت في بحث هذا الموضوع البكر (صبرى حافظ، رشيد بنحدو، ياسين النصير، نورالدين صدوق، جليلة الطريطر، عبدالفتاح الحجمري، عبدالعالي بوطيب، بوشعيب حليفي، حميد لحميداني ...)، فقد ظل موضوع "البداية" أمرا غير مفكر فيه، مقارنة مع مجموعة من القضايا الأخرى التي استأثرت باهتمامات الناقد العربي.

ويتابع أشهبون في دراسته "خطاب (البداية) الروائية في النقد العربي" المنشورة بالعدد الجديد (477) من مجلة "البيان" الكويتية أنه ليس هناك معايير نصية صارمة بخصوص طبيعة ملفوظ "البداية" في الرواية من حيث الكم أو الكيف، يستتبع هذا الاستنتاج أن فن صياغة "البداية" لا يخضع لقيود شكلية يكون الروائي ملزما بالامتثال إليها، بل فيها قدر كبير من الحرية الفردية المتعلقة بذات الروائي، وهو يضع بدايته التي قد تكون أطول قليلا من الجملة الواحدة، باعتبارها وحدة افتتاح دنيا، إلى حدود أوسع قد تشمل الصفحة أو أكثر.

ويعول صاحب الدراسة على رولان بارت الذي يتساءل في إحدى مقالاته الهامة، وانطلاقا من عنوانها الحابل بالدلالات، السؤال التالي: "من أين نبدأ؟" وحول هذا التساؤل بالذات ستنكتب مجموعة من الدراسات النقدية الحديثة، باحثة عن مشاريع أجوبة واقتراحات بخصوص هذا الموضوع البكر في الدرس النقدي الغربي آنذاك.

ويتوقف الباحث الإيراني د. سيد إبراهيم آمن عند المصادر الدينية والتاريخية في ديوان عبدالرزاق العدساني.

ويكتب الناقد السوري د. سمر روحي الفيصل عن رواية "ليلة الجنون" للكاتبة الكويتية منى الشافعي مشيرا إلى الرومانسية في أعلى تجلياتها، موضحا أنه ليس من المفاجئ أن تكتب منى الشافعي رواية "ليلة الجنون" بل المفاجئ أن تحرص فيها على إحياء الأسلوب الرومانسي الذي نسيه الروائيون أو تناسوه. ويرى الفيصل أن الرواية (بعامة) تسعى إلى إيهام متلقيها بالواقع ليرتبط بالنص الروائي ويتفاعل مع حوادثه، وليس في أسلوب رواية "ليلة الجنون" ما يخالف هذه القاعدة الروائية.

ويلفتنا الناقد إلى أن بناء رواية الشافعي ـ التي كتبتها بعد 17 عاما من إصدارها مجموعتها القصصية "النخلة ورائحة الهيل" 1992 ـ قائم على شخصية روائية واحدة، هي شخصية "سارة"، بل إن بناء الرواية يكاد يكون بناء سيريًّا، يرصد طوال ستة وخمسين قسما حقوق قلب سارة مذ كانت طالبة إلى أن أصبحت أستاذة جامعية وشاعرة مشهورة.

ومن مصر تكتب هويدا صالح عن متعة الاكتشاف "في غابة المرآة"، وهو كتاب ترجمه سليمان حرفوش، ويشتمل على مجموعة من الدراسات والمقالات عن الكلمات والعالم للكاتب الفرنسي ألبرتو مانغويل الذي يريد الحرية دفعة واحدة.

أما الناقد الجزائري د. الشريف حبيلة فيتناول تداعي زمن النص وزمن العنف في الرواية الجزائرية، مشيرا إلى أن الرواية الجزائرية المعاصرة كانت أسيرة لقصة العنف التي عاشتها الجزائر، فلم تستطع الخروج عن دائرة العنف، وما كان منها إلا أن تتخذها مادة حكائية لها، شكَّل العنف بداياتها ونهاياتها، وزمنها المحوري، من خلال القرائن التاريخية والإشارات الزمنية التي وظفها الخطاب. وهو في سبيل ذلك يتوقف عند عشر روايات جزائرية هي: سيدة المقام، ذاكرة الجسد، امرأة بلا ملامح، الشمعة والدهاليز، تيميون، يصحو الحرير، دم الغزال، بين فكي وطن، الشمس في علبة، وكراف الخطايا.

في مجال المسرح يكتب الناقد المسرحي المغربي محمد الكرافس عن فلسفة يوجين أونيل في الكتابة ودوره في تغيير مسار الدراما الأميركية متوقفا عند مسرحية "رحلة يوم طويل في جنح الليل" التي جاءت بعد صمت رهيب ميز حياة أونيل الإبداعية خلال فترة الثلاثينيات من القرن الماضي بسبب مرض غامض أصاب يديه، وكرد فعل على هذا الصمت جاءت تلك المسرحية.

ويطلعنا عبدالمحسن العصفور على وثائق نادرة عن أمير الشعراء أحمد شوقي، مستدركا بذلك على كتاب "أحمد شوقي في المصادر والمراجع" الذي نشرته مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري كأحد إصدارات "دورة شوقي ولامارتين" أكتوبر/تشرين الأول 2006، وخلا من بعض هذه المصادر والمراجع، ومنها دراسة د. شكري فيصل (1918 ـ 1985) عن نثر شوقي التي يضمنها العصفور مقاله. ويشير الباحث إلى أن كتاب مؤسسة البابطين خلا كذلك من الإشارة إلى بضع عشرة مقالة تتحدث عن شوقي ونشرت في مجلة "العربي" التي تصدر في الكويت.

وإلى جانب مجموعة من القصائد والقصص التي نشرتها "البيان"، يفتتح رئيس التحرير سليمان الخزامى، العدد الجديد بمقال عن "دوحة الثقافة" بمناسبة اختيار العاصمة القطرية "الدوحة" عاصمة للثقافة العربية 2010، بينما ينهي العدد أوراقه بلمسة وفاء عن الشاعر الكويتي الراحل عبدالمحسن الرشيد (1926 ـ 2008) ضمير المجتمع.

أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية




'سيدات زحل' رواية ترتقي إلى مستوى الكارثة العراقية


رواية لطفية الدليمي لا تنحصر في كونها تاريخ العراق بل تاريخ وطن كامل يمتد الخراب فيه إلى حدود الحلم.

عمان ـ صدرت في عمان رواية "سيدات زحل" للكاتبة لطفية الدليمي التي تؤسس لعالم الجحيم العراقي عبر الأزمنة، ذلك الجحيم الذي تطمح الكاتبة لرسمه بدقة متناهية، دون أن تغرق فيه، رغم ذيوله الجهنمية التي تطال كل شيء، فهي ترصد العراق بعذابات عصوره التي تصل به إلى ما هو عليه من قتل وانتهاك حتى للهواء، الدمار والاغتصاب والقتل والطائفية لتقوم – عبر استنهاضها لروح الأسطورة ومجالدة الموت - قيامة الحب، وتستعاد إنسانية الوجود بتجليات العشق والكشوف الروحية والجسدية.

تكشف الدليمي حلمها بفردوس مشتهى دون أن تقوله، وفردوسها عالم من لحم ودم ورجال ونساء ورؤى، من حلم وأمل يستنهضه المستغرقون في الكشف حتى الغياب، سادنه قيدار البابلي، الغائب/الحاضر، سادن يستوطن الفعل، ويظل أمينا على الحقيقة وحراسة الفن والجمال والمعنى الذي يحاولون تغييبه لتدوم قيم الحضارة الإنسانية مقابل دموية الطغاة والغزاة.

وأمينة سر قيدار، حياة البابلي راوية الحكايات في هذا العمل الروائي الفسيفسائي - كحال العراق – تقدم لنا غرائبية الحاضر وظلال الماضي ورؤية الغد عبر موشورات متباينة من العصور والأحداث والرؤى بتقنيات سردية خاصة تنتمي للكاتبة وتجربتها الإبداعية وتتجانس مع ثيمة العمل الملتهبة.

ترتقي هذه الرواية إلى مستوى الكارثة العراقية التي حلّت بالعراق إثر انهيار الدكتاتورية وسقوط بغداد، ليس بأيدي القوات الأنكلو - أميركية والقطعات الدولية المتحالفة معها فحسب، وإنما بأيدي المتشددين والظلاميين والمليشيات الدينية ورجال القاعدة ومجاميع الجريمة المنظّمة والذبّاحين واللصوص والسلابين والمبتّزين وقُطّاع الطرق.

وليس غريبا على روائية بقامة لطفية الدليمي أن تكون بموازاة الحدث التراجيدي الكبير الذي ألمَّ بالعراق إثر حصار ظالم وثلاثة حروب كونية في فظائعها وتداعياتها المرعبة، فهي كاتبة ملمّة بأدواتها الفنية وتعرف كيف تتلاعب بوحدات نصها السردي من زمان ومكان وحدث وشخصيات تتحرك على وفق اشتراطات الحبكة الفنية التي تتطابق مع الواقع المؤسي تارة، وتفترق عنه لتحلّق في الفضاء الفنتازي الذي تخلقه الروائية تارة أخرى، آخذين بالاعتبار أن الواقع العراقي الذي تتناوله الرواية يمتد من تأسيس بغداد ومرورا بعام 1258 حينما سقطت بغداد على يد هولاكو وجنوده الغازين الذين سلبوا البلاد، ونهبوا ثرواتها، واغتصبوا نساءها، وأحرقوا مكتباتها، وحولوا مدنها وحواضرها الى أكوام من رماد، ويستمر حتى الوقت الحاضر الذي استبيحت فيه بغداد من جديد وتسيّد فيها قانون الغابة وكأنها وقعت تحت طالع زحل المشؤوم.

لا شك أن "سيدات زُحل" ملحمة نسائية محورها حياة البابلي التي دوّنت كل شيء، وبطلاتها الأخريات سلسلة طويلة من النساء تبدأ بأمها بهيجة التميمي، وتمرّ براوية وفتنة ومنار وآمال وزينة وسامية وهالة وشروق ولمى وهيلين، وتنتهي ببرسكا برنار، وغيرهن من النساء اللواتي يظهرن ويتلاشينَ على متن هذا النص الملحمي الطويل مثل ناهدة وساهرة وسهام، غير أن أمانة التوصيف تقتضي منا أن نسمّي الأشياء بمسمياتها، فدور الرجال ليس مكمّلاً أو ثانوياً على الرغم من هيمنة العنصر النسوي.

فحياة يقابلها في المحنة والمأساة طليقها حازم الذي تعرّض لفعل الإخصاء من قبل أزلام النظام السابق، وراوية التي كان رأسها مطلوباً من الذباحين والمتشددين يوازيها حامد الأخرس الذي بَترت السلطة المستبدة لسانه لأنه قرأ حواراً لمكدف مع مالكوم بالعربية، وفتنة التي اختطفها حماية أحد المسؤولين يقف إزاءها الشيخ قيدار الذي ظل الغائب الحاضر على مدار النص.

ولا يمكننا أن نغض الطرف عن أشقّاء حياة الثلاثة الذين واجهوا مصائر مفجعة تتوزع بين القتل والإعدام، كما هو حال مهنّد وماجد، والاختفاء، كما هو حال هاني، والاختطاف، كما هو حال سرمد، ابن هاني.

وعلى وفق هذه القراءة المحادية يمكننا توصيف هذه الرواية بأنها نص ملحمي إنساني يعتمد على سيرة أناس عراقيين قادرين على تحمّل المصائب والويلات، وسيرة مدينة عجيبة مثل بغداد قادرة على تحمّل المحن والكوارث لأن عشاقها ومريديها يخبئونها، في أوقات الشدائد، مثل كنز ثمين في أرواحهم التي تحلّق على جهاتها الأربع.

"سيدات زحل" ليست مجرد رواية تقرأ، أو درب يعبر، أنها مجموع الاسئلة التي ترتطم بوجوهنا التي تصخرت أمام ضياع كل ما هو إنساني فينا وحولنا.

نصٌّ روائي يحرضك على طرح الأسئلة /الفعل، لأنه يضعك أمام ضرورة استحقاقات وجودك الإنساني.

ملحمة روائية تكشف عن جذر الخراب وتلملم شظايا الواقع لتعيد بناء الإنسان بالحب واسترداد قدرة الحلم، فبقدر ما تمتلك خصوصيتها العراقية الساطعة، تتجه بقوة إلى كونيتها لتكون حكاية الجميع وحلم الجميع وتاريخ الجميع قتلة ومقتولين وعشاقا وحالمين ورؤيويين.

كثيرون هم الذين كتبوا عن الحرب العراقية، لكنهم على الأغلب كتبوا المتخيل الذي لم يستطع أن يرقى إلى فظاعة المشهد الواقعي الذي عاشته لطفية الدليمي وكتبته من الداخل، فكتبت تاريخ مدينة وناس من لحم ودم وانعجنت في لحم الحقيقة والواقع الذي يفوق المتخيل إدهاشا وغرائبية.

ما كتبته لطفية الدليمي في هذه الرواية لا ينحصر في كونه تاريخ العراق بل تاريخ وطن كامل يمتد الخراب فيه إلى حدود الحلم واغتيال بياضه وتاريخ الإنسانية المعذبة.

لقد نجحت رواية "سيدات زُحل" في أن تكون بمستوى الكوارث التي حلّت بالعراق منذ تأسيس بغداد، مروراً بسلسلة الاحتلالات التي تعرضت لها العاصمة، وانتهاءً بسقوطها المروّع الذي جسدّته لطفية الدليمي في عملٍ روائيٍ شديد البراعة والإتقان.