عتيبة من 'فراخ العالم' إلى 'أسد القففاس'

46


استخدام الرمز والإسقاط



رواية 'أسد القفقاس' تتناول حياة الإمام شامل بن ذكاو إمام المريدين في الشيشان وداغستان، المولود 1799.


بقلم: حسام عبدالقادر

أتردد كثيرا عندما أريد كتابة مقال عن الأديب "منير عتيبة" لأن درجة الصداقة التى تربطنا تجعلنى متحيزاً له، لا أرى أي عيب به على المستوى الشخصي أو المهني ككاتب وقصاص، وأحب وأنا أكتب أن أكون محايداً على قدر استطاعتي.

إلا أن رواية "أسد القفقاس" الأخيرة لعتيبة جعلتني استثني هذه القاعدة التي وضعتها لنفسي صامتاً، فرغم أن هذه الرواية تدور في الشيشان وصراع الإمام شامل مع الروس، وهي أجواء خاصة جداً، إلا أنها ذكرتني مباشرة بأول مجموعة قصصية صدرت له وهي "يا فراخ العالم اتحدوا" والتي حملت اسم قصة من قصص الكتاب.

وقصة "يا فراخ العالم اتحدوا" لها حكاية فقد نشرت في جريدة الوفد في أواخر الثمانينيات، وكنا ما زلنا طلبة في الجامعة، وكان الفضل في ذلك للأستاذ والمفكر الكبير الراحل خالد محمد خالد الذي كان يشجعنا ويشد من أزرنا، وكان لا يتوانى عن تقديم كل أنواع الدعم المعنوي والمادي لنا في أستاذية نادرة قلما تتكرر.

الأستاذ خالد رأى الموهبة الأدبية في منير عندما قرأ له إبداعاته القصصية فقرر أن يشجعه وكان أول تشجيع له أن نشر له قصة "يا فراخ العالم اتحدوا" بجريدة الوفد، في وقت كانت فيه الصحف اليومية تعد على أصابع اليد الواحدة ولم يكن هناك صحف خاصة وقتها، وكان النشر في الجريدة المعارضة الأولى في مصر بمثابة انطلاقة قوية.

وعندما رأيت طريقة وضع القصة في صفحة الوفد بالعدد الأسبوعي، والمساحة التي أخذتها مع وضع لوحة تعبيرية رسمت خصيصاً للقصة، عرفت وقتها أن القصة حازت على إعجاب رئيس القسم الأدبي بالجريدة وأنه لم ينشرها مجاملة للأستاذ خالد، والدليل الطريقة التي وضعها داخل الصفحة وهي تفاصيل تأكدت لي أكثر عندما خضت مجال العمل الصحفي وعرفت تفاصيله.

أما لماذا تذكرت "يا فراخ العالم اتحدوا" وأنا اقرأ "أسد القفقاس"، فلأن عتيبة استخدم لغة واحدة رغم أن الأولى قصة قصيرة والثانية رواية، فالاثنتان بهما إسقاط على واقعنا وحالنا، فقد صور في الأولى واقعنا من خلال الفراخ الذين يريدون الثورة على واقعهم ورغبتهم في الاتحاد من أجل مبادئهم وتطبيقها، في تشبيه قريب إلى "كليلة ودمنة" واستخدام الحيوانات لتتحدث بما يريد الإنسان أن يقوله.

والثانية تتناول حياة الإمام شامل بن ذكاو إمام المريدين في الشيشان وداغستان، المولود سنة 1799، وتتلمذه على يد الشيخ سعيد الهركاني أكبر علماء عصره، ثم أخذه الطريقة الصوفية النقشبندية؛ التي كانت تحمل لواء العلم والجهاد في كل بلاد القوقاز، على يد الشيخ محمد أفندي اليراغي النقشبندي الذي أجازه، وجهاده ضد الروس طيلة 25 عاما، ووقوعه أسيرا في قبضة القيصر اسكندر الثاني، إلى وفاته سنة 1871 في المدينة المنورة ودفنه بجوار قبة العباس رضي الله عنه عم رسول الله محمد صلي الله عليه وسلم.

لم يكن شامل مجرد زعيم عصابة جبلي كما يحاول أعداؤه أن يصوروه، وإنما كان حاكما يعمل في ظروف غير مؤاتية في سبيل وحدة القفقاس، وهو شخصية خلافية جدا، هو المجاهد الصوفي الإسلامي الكبير، وهو خارج على القانون وإرهابي. هو سادس الخلفاء الراشدين، وهو متسلط باسم الدين. حارب الروس لمدة ربع قرن، حقق انتصارات مبهرة بقوات قليلة، بنى دولة، ثم وقع في الأسر لعوامل كثيرة أهمها الخيانة وعدم قدرة الأتباع على مواصلة النضال.

يبدو الواقع القبلي الممزق المتخلف الذي عاشه وحاربه شامل أشبه بعالمنا العربي والإسلامي اليومي، لذلك حرص عتيبة على تناول حياة شامل بما يلقى الضوء على ما نعيشه الآن. وذلك من خلال رواية أصوات يتحدث فيها من أحاطوا بشامل من الأهل والأصدقاء والمنشقين والأعداء، ليس فقط ليوضحوا جوانب حياته المختلفة، بل ليكون الكاتب محايدا بقدر الإمكان؛ ظاهريا على الأقل، وهو يشير إلى ما سننتهي إليه الآن، كما انتهى شامل من قبل، الهزيمة والأسر وتشتيت شمل شعبه بددا.

يربط الكاتب في روايته بين الأندلس المحتضرة، وحال الشعوب الإسلامية في أوائل القرن التاسع عشر، وحال أمتنا الآن، فالأسباب واحدة والنتائج واحدة، وإذا لم نستيقظ فورا سنضيع للأبد.

إن استخدام الرمز والإسقاط عند عتيبة سمة أساسية في كتاباته الإبداعية وأحياناً أظن أنه لا يقصدها أو يقصدها. لا أعرف!
06


روضة الأصدقاء

'الغزالة' مجمع الأفكار والفلسفات بأسلوب شيق

الكيفية عند قاسم مسعد عليوة إبداع وعمق وايحاء وجمال ومتعة فنية تجذب فتجعل لكل كلام 'عقدة'.

بيروت – من جورج جحا

عمل الكاتب المصري قاسم مسعد عليوة "الغزالة" إذا ترددنا في وصفه بأنه "رواية" بالمعنى المألوف، هو ـ مهما تعددت الأسماء واختلفت ـ عمل سردي مميز في تقديمه لمحتواه الثري الذي يحمل إلينا كثيرا من التراث الإنساني الفكري والصوفي والأدبي.

وقبل أن البدء بقراءة هذا العمل المميز، قد يكون مهما أن نقرأ الصفحة الأخيرة، التي حملت كلمة الناشر (دار الهلال المصرية في نطاق "روايات الهلال") عن "الغزالة". إنها كلمة نقدية قيمة بحق ومكثفة.

قال الناشرون "بين يديك عزيزنا القارىء رواية تختلف عن الروايات التي ألفتها فهي تخلو من العقد التي طالما أجهدت نفسك من أجل تتبع خيوطها وإيجاد حلول لها أو مضاهاة الحلول التي أوردها المؤلف على المنطق أو قانون النص الروائي وحبكتها أيضا هي الأبسط بالقياس إلى الحبكات التي صارت من فرط نمطيتها مثيرة للملل والتثاؤب".

أضاف الناشرون عن شخصيات عمل قاسم مسعد عليوة "شخصيتان بشريتان احتكرتا مسارح الأحداث في الرواية.. معلم وتلميذ ومعهما غزالة لا تني تظهر وتختفي. غزالة ربما تشبه غزالة ابن عربي ومن لفّ لفه، لكنها في الرواية هذه تتمتع بصفات تجعلها أقرب إلى الحياة منها إلى الفكرة المجردة. شخصية المعلم هي محور الرواية ومركزها. شخصية تذكرك بـ (نبي) جبران خليل جبران، و(زراداشت) فريدريك نيتشه، و(حلاج) صلاح عبدالصبور، ومشاهير الصوفيين والمصلحين الإسلاميين، لكنها تختلف عن هؤلاء جميعا بعصريتها واهتمامها بالحاضر الآنيِ".


والواقع أنه مع أهمية ما ورد في الكلمة، فالرواية تحمل أكثر من كل ذلك بكثير. شخصية المعلم
والمريد الذي يسأله فيجيب هي أساسا مأخوذة عن معلم آخر "معلم أول" لجبران، وحتى لنيتشه وان بدا "عدوا" لهذا المعلم ألا وهو المسيح وتجواله مع تلامذته والأسئلة التي تبدأ بالقول "يا معلم" والأجوبة خلال ذلك.

نجح الكاتب في قدرته على "التجرد" من زمن معين أي فصل نفسه عنه والتكلم بما يحمل إلينا أجواء من عالم قديم أو فلنقل بعض سمات من أفقر بلدان العالم الثالث وفيها الفقر والقذارة والأبنية الشاهقة.

يقول مثلا "مدينة.. مثلها مثل المدن الشبيهة تغز عمائرها عين الشمس لتنكسر أشعتها وتنز ظلالا تطؤها
الأقدام وتهرسها عجلات المركبات. ومثلما يحدث في المدن الشبيهة حف بنا الصبية والقوادون.. وجاء الشحاذون وحام حولنا السواقون وتنطع باعة التوافه".

وتحدث عن الفساد والتواطؤ بين رموز للسلطة وبين المجرمين من أجل المال. في الرواية رموز وتعابير وأعمال واضحة للمتصوفة إلا أن المعلم فيها مختلف في أكثر من مجال واحد. فعلى رغم أجواء معظم مسارح الأحداث ورغم اللغة التي توحي في غالبها بأنها تتحدث عن عالم قديم الا حيث يرد كلام عن أمور حديثة كالسيارات والبنادق الرشاشة وغيرها، فإن هذا المعلم يبدو مختلفا عن سائر "المعلمين"، إنه معلم "حديث جدا" من ناحية ما. إنه موغل في الأمور الشهوانية بما يوازي - قليلا أو كثيرا - الروحانية التي تفيض بها الرواية.

المعلم الروحاني يخوض غمار "رقص" مادي. وإن خطر للبعض أنه قد يكون أشبه برقصات زوربا اليوناني في رائعة كازانتزاكي. إنه مزيج من الشهوة التي ترتقي إلى عالم شبه روحي.

أما الغزالة، وهي رمز في كل حال، فتبدو أحيانا أقرب إلى
الروح التي لا تقهر خاصة حيث يسعى الحاكم المستبد إلى صيدها فيعصاه الأمر كما يصعب أو يستحيل تدجين الأرواح.

وقد يكون في أسلوب الأسئلة التي تطلب أجوبة فضلا عن التأثر بالمعلمين سالفي الذكر أثر لما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال إنه من فعل القصص الهندي في أدبنا من خلال أسلوب "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة".

في بدايات الرواية قد يجد القارىء نفسه يتذكر رواية فرح انطون "المدن الثلاث" أو مدن العلم والدين والمال.

أحيانا نجد أن الكاتب أفاد من أمور وأفكار لا تحصى حتى أننا نواجه بعض الأمثال الشعبية والقصص الشعبي، وقد صيغ بقماشة جعلت الأمر أكثر أناقة وعراقة من أصله الشعبي. تقرأ عن المكان المكتظ بالناس "وما به من فسحة لمزيد" فتسمع رد المعلم "هذه روضة الأصدقاء وما ضاقت يوما عن صديق" فتذكر المثل الشعبي "البيت الضيق بيوسع ألف صديق".

ونقرأ "اغمض عينيك تبصر كل شيء" فتحمل إلى ذاكرتنا قصيدة "اغمض جفونك تبصر" لميخائيل نعيمة، ومنها قوله "إذا سماؤك يوما/ تحجبت بالغيوم/ أغمض جفونك تبصر/ خلف الغيوم نجوم".

والواقع أن الكاتب يستشف الروح الكامنة وراء كثير مما في الحياة اليومية ويتلقف ما في مشاعر الناس وخواطرهم وما عبروا عنه أحيانا بكلامهم أو شعرهم الشعبي. من أمثال ذلك قوله "إنما الهوى هوا فهل أنت مستغن عن الهوا".

خيال الشاعر الشعبي اللبناني مثلا عبر عن الأمر نفسه بقوله "قلت الهوى/ قالت أمان من الهوى/ قلت الدوا/ قالت ما لوش ولا دوا/ قلتلها راح روح أترك هالبلاد/ قالت وأيا بلاد ما فيها هوا".

قاسم مسعد عليوة لا يخترع من الأفكار والمعاني ما ليس موجودا. كتاباته تحمل إلينا الفكر والفلسفة والتصوف والخيال الشعبي وأمورا كثيرة أخرى. أما حيث أبدع فكان في التعبير الفني عن كل ذلك.

قديما قيل إن المعاني ملقاة على قارعة الطريق. في العمل الفني من المهم جدا أن يكون ما تقوله "مهما".. لكن الأهم منه هو "كيف" تقوله. والكيفية عند قاسم مسعد عليوة إبداع وعمق وايحاء وجمال ومتعة فنية تجذب فتجعل لكل كلام مهما كان قليلا "عقدة" نتوق إلى معرفة ما يأتي بعدها.

القمر يبكي بحضن الشمس" لابراهيم أبوعواد

مقطع من القصيدة للشاعر الأردني ابراهيم أبوعواد ..

تبدل حبالُ المشانق جلودَها

كما يبدل الفستقُ شفراتِ مقصلته

لا مكاني قصدير تحت مظلات الحزن

ولا كوخي مستشفى ولادة للدببة القطبية

أنتِ العشبة الطريدة في كتابات المعدة

فلتضحكي مثلما يبكي ما تساقط من أنوثة الأرصفة

سجَّل الخروبُ المقلي اسمَه البرونزي

على شواهد قبور مخصصة للخيول

مسائي وهجُ التفاح آخر الصيف

منتصفُ المراثي ألقُ الطباشير المارة

كالقلوب المسيجة بالزرنيخ

وذهبنا نفرش معنى البنفسج

على مرايا المصاعد المعطلة

كن قماشاً يخيط الإبرَ الصدئة

قرب شتاء الألفاظ

قطعنا خاصرةَ البحر بسكين قديمة

نسيتها الشمس في مطبخ بيتنا في الأندلس

لماذا تلتصق دمعاتُ الحوت الأزرق

على قبر ابنة عمي في قشتالة ؟

أضرحةٌ يبنيها العشب المبتل في خدي الأيمن

أتى الذبابُ حاملاً في جفونه

ما تبقى من قلب النسر المنبوذ

للرعشة أحصنة الفضة ومناجل الغرباء

يلتقي السيانيد بوالديه في مقهى اليورانيوم

إن الأوحال تمشي إلى تلة

في أحشاء ثعلب مجرد من جنسيته

ابنِ طريقاً من العقيق حول البلابل

تلمحْ مواعيد حصاد أجساد العبيد

وفي انهيارات تكساس أرملةٌ

تضيء معسكرات النزيف

في جماجم أبنائها الخاسرين

في الحرب بين الشمال والجنوب

نحو الشمال الدامي يعدو وقت الأكفان

يحدق تمساحُ الزنبق في ساعة يده

ويتساءل عن موعد الجريمة

أضاعت المذنَّباتُ حبَّها الأول في الجرح الثاني

هكذا تصير حياتنا كومةً من الأرقام

وتحت الشجرة التي لم تولد

بكينا حاضنين أسماءنا وتوابيت أجدادنا

إن تسكت العاصفةُ نَرَ درب جثامين من عَبَروا

إلى سطور ذابلة في الكتب

التي تطالعها رفوف المكتبة

ليس لأبجديتي نهر أو سور

كانوا يحفرون الأنوثة

في عيون القطط الضالة

وعمالُ النظافة يصدرون جوازاتِ سفر

للصنوبر البحري

السَّفرُ كنية الليمونة وفاكهة الغريب

وبينما كنا نمشي إلى مروحة جمجمة الوقت

اصطدمت رؤوسنا المقطوعة بأسلاك الكهرباء

فارتعشت العصافيرُ التي ودَّعت النسرين

في محطة القطارات

أصبحنا صوراً خرساء في براويز

تزوَّجها غبارُ أشرطة الأفلام الوثائقية

لن أبكيَ أمام ابنة عمي لكنني بكيتُ

لن أمشيَ إلى رمل المحيطات لكنني مشيتُ

لن أرويَ قصة اغتيال الينابيع لكنني رويتُ

كنتُ الغريب يوم اكتحلت عينا النبع

برماد الأجنحة المتساقطة

في القصبات الهوائية للخريف

مبروك لهذا الأديب


سكوت المنادى ... ل/على معوض

ماذا نفعل حينما تضيع منا الكلمات؟

الحلم هو الأمل في نهار تشرق شمسه بعد طول غياب والشعر هو ترجمة الواقع وقد يفشل الشاعر في ترجمته فنصبح أمام عالم معتم تختبي فيه الصورة فتضيع معالم القصيدة ,هذا هو عالم الشاعر علي معوض المعتم الذي أضاءه بشمس كلماته الساطعة المتحركةففرش بساط الكلام وخاف اللائمين قائلا:

أحداث في ضميري صاحية

بالخبرة مش العلام

واعيها واهم اطولها تتخفي في الظلام

هاجس يؤرق الشاعر وأحداث جمة يعيها وحينما يمسك بها يجدها سرابا فيصاب بالاحباط الشديد في قوله علي الدنيا السلام

أما القصيدة الرئيسية في الديوان (سكوت المنادي)والذي يقول فيها..

أنا من كتر ما اتعذبت

أخدت من الألم زادي

وبيه عايش ومتعود

وباربط جرحي وأحادي

في رمش عيوني أنا شايله

تري كم من الهم يحمله هذا القلب المثقل بالهموم ..دوامات من الألم والحزن للدرجة التي اعتادها الشاعر وينتهي به المشوار ليبدأ به من جديد .قصائد عامية مبهجة أحيانا ,معتمة أحيانا كثيرة لكنها في النهاية صرخة شاعر يريد الخلاص غير خائف وغير عابيء بالنتائج.

ضم الديوان قصائد عديدة منها ..جورنالجي...حاضر..هاتي المخبي..جمل ..وبا....شاوري ..وغيرها

دعوة للإبحار في عالم علي معوض الشعري للبحث عن الحقيقة في علم كاذب مخادع.


ديوان جديد للشاعر السعودي محمد العلي

الرياض: صدر حديثاً ديوان جديد للشاعر السعودي محمد العلي معنون بـ "لا ماء في الماء" عن نادي المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، جمع الديوان وأعده للنشر محمد بن عبد الوهاب الشقاق وحمزة بن حسين الشقاق.

ووفقاً لصحيفة "الوطن" القطرية كتب يحيى الراضي في مقدمته للديوان "شعر العلي محاولة فرار من أقواس التراث والنظريات الباردة والأحداث المتفحمة حيث لم يعد ممكنا تكوين صداقة بين اليومي والشعري فالواقع يمثل الرهبة بينما يمثل الفن الرغبة وتلك صداقة قال عنها أبو حيان التوحيدي:انها شديدة الاستحالة. فلا يبقى الا خيار الفرار الفني لكي لا يتحطم زورق الشعر على صخور الحياة اليومية وتسحقه الاقدام مثل كلام الجرايد.

ومن القصائد التي يضمها الديوان قصيدة "كيف" والتي قال فيها الشاعر:

كيف الفرار من الشعر هذا الذي أصبح

لصا بحجم الليالي!

كيف الفرار من هذه الهوية

التي لا تدري على أي موجة تبني وكرها،

كيف الفرار من هذا الحب السادر مثل سحاب

أعمى

كل شيء جميل فر الا انت بقيت تسأل:

كيف الفرار؟

وفي قصيدته "الحزن" يقول:

حين يفرد كل مساء جناحيه

تدنو الغيوم الحزينة

تلك التي كورت في النهار

لتهطل في كل قلب

حين يفرد كل مساء جناحيه

تدنو القلوب إلى بعضها

لتأكل من بعضها

وتسمع أغنية الليل

في شغف زائغ

شغف ذي مخالب

شغف مثل صحراء

يجأر فيها العدم

لا تدعني وشأني॥ بقلم ماجده سيدهم

شيء ما بلا ملامح يطاردني هذا الصباح – أعتذر- كل صباح - وأردد أيضا ألا يغادر ملاحقتي كيلا أسقط في هوتي الموحشة باللاّ جدوى واللاّ معنى - في الركض نبحث مجددا عن الضائع فينا -المفقود منا ونتلمس الأشياء بعينها ، ندعوها بأسمائها ونتذكر من الكلمات التي نعتقد أننا نعرفها ، نتقدم في تراجع متصاعد نحو موجات دائرية متوترة وأحيانا عشوائية، الاختباء من شيء تجهله مثير للارتبارك المتقطع والخوف المثلج بأطرافك التي تشعر لحين أنها لا تنتسب إليك ، تسمع بوضوح ارتطام كريات دمك التي لم ترها قبلا لكنك تتفهم نزيفها جيدا الآن، فدفقها اللاذع عبر نوافذ جلدك يعنى الأمر الكثير و تخرج زفراتك لتترك متسعا آخر لفحص تفاصيل لحظتك وحقيقة ما بت عليه ، وان عينيك على اتساع ثاقب إلى أشياء تافهة ولا تعني معنى ما لك - هذا الشعور الذي يختصرك إلى حالة تنهد يتناغم صمت شهيقها مع اشتعال زفراتها المختزنة مسبقا بإتقان ، تترقب ولا تتوقع أي شيء ، ولن يضف المزيد إلى تراكم وحدتك ،فقد أصبحت حقا بمعزل جيد عن المنتمي إليك ، عن مكانك ، عن صوتك، عن الروائح ، الانتباه، الغرائز، الرؤية ،الضحك عن الإحساس بأهمية أي شيء - أنت تعيش عدمك الآن - وتجد لذة يقينية في الاستغراق ، ينعدم وزنك ولا أثر بين يديك لوجودك ، وان الحشرات الصغيرة والمزعجة قبلا من الممكن مصادقتها ، وفى مقدرتك فعل أمور دون تفكير فيما قد تسفر عنه ، تنظر إلى كفيك وتقلبهما ،تجاعيد أصابعك ذاكرة جيدة أيضا نظراتك الشاردة لاتجيد القسوة ، تحلق في سقف الحجرة تنظر تفاصيل المساحة ليرتكز فيما بعد نظرك إلى مصباح أيضا مثلك أعزل، يتدلى مجردا في التفاف كل هذا الخواء ،وبينما أنت هكذا- تتسلل أظافر روحك والتي تحلق داخل عالمك النائي ، تفتش مجتهدة عنك ،وتضج كل خلية فيك تبحث عن من يجدها ،وعن من يهمه أمرك ليلتقطك من تيه مضمونك الهارب منك - قد تلجأ إلى هاتفك - ورسائل تبثها لمن تسأله أن يدفع إلى قلبك ومضات من استرخاء - قد تفتش مضطربا في دفاترك القديمة وأيضا تلقيها بعيدا ، الآن أنا في حاجة فائرة لفعل شيء خارق جد ا، بينما في حقيقة الأمر هو اقل تواضعا مما نتوقع - لكنه حين تلك اللحظة يشكل ثقلا ممتازا لاجتياز فعله لذا تنمو محاولة اجتهاد إلى موسيقى خافتة - دفتر خبايا ابنتي قريب من تلصصي الذي لم افعل لكن بلا شك سأفعله أيضا الآن - الموسيقى لص الغابات وماء الفكرة الأولى ، تتسرب إلى مسام العطش المزدهر ، توقظ جفاف انكفائها ، وأقرأ خواطر صغيرة ، التنفس أصبح أكثر انتظاما و هدوءا - وتباعا تسقط لفائف من رصاص شتوي أزرق ،وتعلن الألوان عن وضوحها ، إذا نحن هنا في أشد الاحتياج الصارخ لأشياء وأناس وأفعال أكثر صدقا وجمالا وشفافية ..!

- عفوا ..عند منتصف الاختناق الذي تنفست ، أرسلت اليه " لاتدعني يا صديقي وشأني " لكن يبدو كانت لديه كلها نصا مفقودا ، هكذا أنا اخترع أناقة عدم الاكتراث ، الخيارات أمامي الآن مدهشة ، أن أتجاوز مرارة الخيبة ببالغ الابتسامة ، أو أمضي من خذلتي إلى فطرة الأشياء دونما التفات أو مبرر ، أو أعاود التلصص مجددا على قصاصات طفلتي الأكثر لطفا وطيبة ، في جميع الأحوال - أتقنت كيف دونه أمضي إلي ارتفاعي الأفضل متكئة إلى زوايا امتيازي ، لذا الآن يا صديقي دعني وشأني ..!

تناقضات المجتمع الرأسمالي

First Published 2010-07-19


الرواية في مرحلة الواقعيّة النقديّة


تعتمد الواقعيّة النقديّة التي تبلورت في خضم الصراعات في المجتمع الرأسمالي على التحليل الإجتماعي بالأساس.


بقلم: صباح علي الشاهر

كان على الرواية الجادة بعد عام 1848 أن تتحرك بتيار مضاد منعزل عن طبقتها، حيث تزايدت تناقضات المجتمع الرأسمالي، وكلما ازداد التناقض ـ كما يقول لوكاش في "نظرية الرواية" ـ "تزايد التبرير بوسائل منحطة على تمجيد الرأسماليّة ونشر الأكاذيب الخبيثة لتشويه صورة البروليتارية الثوريّة، وكذلك تكريس الملق والإطراءات حتى أصبحت ميزة من ميزات الأحكام التعسفيّة والقمعيّة التي ينمو في ظلها الزيف والدجل والملق الكاذب والمصلحة الجوفاء"।

لقد أضحى المجتمع البرجوازي مجتمع التناقضات واللامساواة، مجتمعاً يستلب الإنسان ويهمشه ويقتل فيه إنسانيته، ومن هنا ينطلق النقد العنيف في نتاج الكتاب الواقعيين، والذي سيشكل الأمر الجوهري في الواقعيّة في قمة تطورها في القرن التاسع عشر، وسيصطلح فيما بعد على هذه الواقعيّة بالواقعيّة النقديّة والتي ستؤشر بعمق التوجه الإجتماعي، وستغدو مرتبطة بشكل أمتن بالسياسة والفلسفة، وستستهدف بأكثر شموليّة القيم الإنسانيّة النبيلة، وكان تعاملها النقدي يمثل انتقاداً حاداً لظروف حياة الإنسان، وعكس مقاومة الإنسان لهذه الظروف، وقد خلقت الواقعيّة النقديّة إمكانات إبداعيّة هائلة في حينه لم يسبق لها مثيل، ولذلك كانت إنجازاتها الفنيّة عظيمة الأهميّة حقاً.

من الواضح أن واقعيّة القرن التاسع عشر، والتي كان ظهورها تعبيراً عن الحاجة الإجتماعيّة لفهم طبيعة التبدلات المتسارعة، ونتيجة لظهور علاقات اجتماعيّة وإنسانيّة جديدة، قد خلقت نظرة شاملة هائلة للوجود التاريخي للإنسان، وآماله وخيباته وإحباطاته، وتطلعاته الروحية، وانكساراته وهزائمه وأخطائه، نظرة أشارت بوضح إلى الغوص عميقاً في استكشاف الشخصيّة الإنسانيّة، وحياة الطبقات الدنيا للمجتمع وما تتعرض له من تهميش وإضطهاد.

إن رفض القيم الرأسماليّة، وتعريتها والنضال ضدها، سمة من سمات الواقعيّة النقديّة، التي تجلّت في إبداعات أبرز ممثليها بلزاك وستاندال، فبلزاك مثلا أدرك مشكلات مجتمعه في حينه، وقادته واقعيته الشديدة الرصد والملاحظة إلى أن يعرض في رواياته ما يناقض مُعتقداته السياسيّة والدينيّة التي كانت تتصف بالرجعيّة، فهذا الفنان الكبير كان إبداعه يدحض فلسفته، وكانت عبقريته تفند مبادئه، لقد عرّى الرأسماليّة، وكشف عن وجه الإستغلال والإستلاب القبيح،

وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلى ما ذكره ماركس في "الأدب والفن في الاشتراكية"، فقد جاء في خطابه إلى الروائية البريطانية مارجريت هاركينس قوله: "كلما تخفّت آراء المؤلف كان ذلك أحسن للعمل الفني، فالواقعيّة التي أقصدها، تتضمنها رواية وتظهر فيها بشكل واضح، رغم أن الكاتب قد لا يكون إشتراكياً، ولأضرب لك مثل بلزاك الذي أعدَّه سيداً من سادة الكتابة الواقعيّة أكبر بكثير من أميل زولا وأضرابه سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ومجموعة قصصه (الكوميديا البشريّة) تأريخ واقعي رائع جداً للمجتمع الفرنسي، وفيها وصف تسجيليّ للأزياء، وصف يكاد يكون سنة بسنة من 1816 إلى 1848، وكل ما طرقته الطبقة البرجوازية من طرق أدت بها إلى التفوق على مجتمع النبلاء، ومنه تعلمت أكثر مما تعلمته من كل المؤرخين والإقتصاديين المحترمين مجتمعين الذين عاشوا تلك الفترة".

ويعقد أرنولد هاوزر مقارنة طريفة بين ستاندال وبلزاك مشيراً إلى أن "ستاندال وبلزاك معاً ناقدين قاسيين، بل خبيثين في كثير من الأحيان للمجتمع، غير أن أحدهما نقده من وجهة النظر المتحررة، والآخر من وجهة النظر المحافظة، وعلى الرغم من آراء بلزاك الرجعيّة فقد كان هو الفنان الأكثر تقدميّة، فهو يدرك تركيب مجتمع الطبقة الوسطى بمزيد من الدّقة، ويصف الإتجاهات التي تمارس تأثيرها. فيها وصف أكثر موضوعيّة مما نجده عند ستاندال الذي كان أكثر ثوريّة من الناحيّة السياسيّة، ولكن تفكيره وإحساسه العام كان أشد تناقضاً، وربما كان هذا أبلغ مثل في تاريخ الفن كله، يبرهن بوضوح كامل على أن الخدمة التي يؤديها الفنان للتقدم لا تتوقف على عقيدته وميوله الشخصيّة بقدر ما تتوقف على قوة تصويره لمشكلات الواقع الإجتماعي ومتناقضاته".

وكانت جهود فلوبير بعد ذلك سواء في مجال الأعمال الروائيّة أو في نظرية الرواية بارزة، فعلى صعيد المواقف، فقد وقف فلوبير بوجه التبرير والتشويه المنحط والتافه نتيجة لحقده ورفضه للواقع البرجوازي الذي احتقره تماماً، غير أن واقعيّة فلوبير ظلت محكومة بالتناقضات البارزة على السطح ولم تستطع النفاذ للجوهر. لقد عدّت رواية "مدام بوفاري" ـ وكما لاحظ بوريس سوتشكوف ـ دراسة نفسيّة موسعة، لا لوحة للأخلاق، أو دراسة تحليليّة للمجتمع. فقد كان فلوبير، باعتباره الحياة البرجوازية اليوميّة بمثابة قوة روتينيّة تقضي على الإنسان وتشل نشاطه، وتعرقل طموحه إلى السعادة يكمل وصف الآلام المعنويّة لبرجوازيّة صغيرة، تهبط بها الأكاذيب أسفل فأسفل، بوصف العالم المبتذل الضيق الذي تدور فيه أحداث قصته. كل هذا كان يبرز سمات جديدة للفن الواقعي لم تعرفها المرحلة السابقة، وهكذا فإن ماخسره تصوير البيئة الإجتماعيّة عوضه فلوبير بمرونة التحليل النفسي وتنوعه.

وكان فلوبير أول من أعلن مبدأ "الكاتب المتخفي" حيث رأى أن على الكاتب أن يغيب تماماً عن عمله، وبين أنه (أي الكاتب) في روايته يجب أن يشابه الإله في الكون، فهو ظاهر في كل مكان ولا يرى في مكان. ونفس هذا الرأي سيكون فيما بعد رأي جيمس في "صورة الفنان في شبابه"، وكما عرفنا فإن ماركس استناداً لفهمه لبلزاك أشار إلى وجود هذا المنحى في قصصه.

يمكن القول إن فلوبير أول كاتب يطرح نظريّة في الرواية منهجيّة وقابلة للتطبيق على نطاق واسع، واهتمامها بالوظيفة الخلقيّة للفن، أقل من اهتمامها بعلاقات الأجزاء المكونة للإبداع الجمالي بعضها بعضاً وبين العمل ككل، وقد استبعد فلوبير ثقافة السرد التي تعود إلى العصر الماضي. إن أهم نظرات فلوبير الجماليّة تركزّت حول الإهتمام الواعي بالشكل، وعنده أن فن الناثر أكثر صعوبة من فن الشاعر لأن الشاعر تسنده قواعد معينة، في حين أن الناثر يلزمه إحساس عميق بالإيقاع التائه بدون قواعد مسبقة، بالإضافة إلى الصعوبات الناجمة عن مراعاة النسبة في الأقسام، وإضاءتها وتناغمها، وكيفيّة الإنتقال من قسم إلى آخر.

كما لعب النقد دوراً بارزاً في ترسيخ النظرة الواقعيّة في الأدب، فإسهامات مدام دي ستال في تأكيدها على العلاقة المتينة بين الأدب والنظم الإجتماعيّة (البيئة) وتأثير ذلك على الفكر والإحساس والذوق، وكذلك آراء سانت بوف الذي اعتبر النقد علماً إجتماعيّاً، وأعتبر أن العمل الأدبي هو الطريق إلى روح الكاتب ومن خلال روح الكاتب ونفسيته تتجلى روح العصر. هذه الآراء وغيرها أكدت كون الفن تعبيراً جماعياً عن المجتمع.

ويأتي زولا ممثلا لما سيعرف بالواقعيّة الطبيعيّة، والتي لا تعدو كونها تطرفاً واقعياً بقصد عكس الواقع كما هو، أي ما يمكن تسميته عكساً فوتوغرافياً جامداً، وواقعية زولا الطبيعيّة اتجاه علمي متطرف يسعى لتطبيق مباديء العلوم الدقيقة على التصور الفني للواقع، وهي تبتعد عن الخيال والعواطف، وتهتدي بالحقائق والقوانين العلميّة، ومن الواضح أن هذا الموقف مُتأت من التأثر بالإنتصارات العلميّة من جهة، ورداً على حركة "الفن للفن" باستنكافها الكامل عن الموقف النفعي للفن، كما أنها رداً على ما اتصف به الفن الأكاديمي الرسمي من ادعاء وصلف وتزييف فني وسياسي للواقع.

لقد عبر زولا عن الطبيعيّة بقوله: "إن العلم يدخل إذن في حقل عملنا، نحن محللي الإنسان في عمله الشخصي والإجتماعي في وقتنا الحاضر. نحن نكمل بملاحظاتنا وتجاربنا عمل الفيزيولوجي، الذي أكمل عمل الفيزيائي والكيميائي. وبكلمة واحدة، يجب علينا أن نعمل في الطباع، وفي الأهواء، وفي الحوادث الإنسانيّة والإجتماعيّة كما يعمل الكيميائي والفيزيائي في الأجسام الخام، وكما يعمل الفيزيولوجي في الأجساد الحيّة".

من المؤكد أن زولا تغلّب على النزعات الرومانتيكيّة، إذ أراد أن يقيم الرواية على أساس علمي ويحلّ التجربة الواقعيّة العمليّة محل الخيّال والعبثيّة، غير أنه لم يجسّد تجاربه الخاصة في الحياة والصراع، وإنما تناول مشاكل إجتماعيّة ووصفها كما لو كان مُخبراً صحفياً. يتضخ هنا إن ثمة تسطيحا مبالغا فيه في النظرة إلى الإنسان، باعتباره كيانا بيولوجيا، ومظاهر فسيولوجيّة. مثلما حدث تسطيح لدى الإتجاه الآخر، الإتجاه السايكولوجي، الذي جعل الإنسان مجرد عمليات ذهنيّة وسيكلوجيّة.

عقد لوكاش مقارنة بين عملين متميزيين، الأول لتولستوي باعتباره ممثل للواقعيّة من خلال روايته "آنا كرانينا"، والثاني لزولا باعتباره ممثل للواقعيّة الطبيعيّة من خلال روايته "نانا". وعكست هذه المقارنة الفرق بين ما سميّ بالواقعيّة الطبيعة، والواقعيّة، حيث تبين مستوى الفرق بين المدرستين فنياً وتعبيرياً.

يقول جورج لوكاش "يكفي أن نعقد مقارنة هنا، ما بين سباق الخيل في رواية (نانا) وفي رواية (آنا كرانينا) فنلاحظ أن لدى تولستوي عرضاً ملحميّاً حيويّاً، ابتدأ من الوقت الذي تسرج فيه الخيول حتى يحتشد الجمهور، وهذا العرض الملحمي بأسره هو عمل أشخاص في إطار مواقف محملة بالدلالات في نظرهم. أما عند أميل زولا فهناك وصف أخاذ لحدث ما في المجتمع الباريسي، وهو من وجهة نظر العمل غير مرتبط، إطلاقاً، بمصير أبطال الروايّة الذين لا يشهدون هذا الحدث إلا صدفة، كمتفرجين ولكنهم غير معنيين. ولهذا السبب نرى أن سباق الخيل عند تولستوي هو مرحلة مجسدة على الطريقة الملحميّة داخل عمل الرواية، في حين أنه لدى أميل زولا ليس سوى وصف فقط".

إن العالم الموصوف في كل رواية من روايات زولا ليس مبنيّاً على أعمال ملموسة لأُناس ملموسين وفي مواقف ملموسة، بل هو حشد وتجميع لأوصاف متتاليّة لأناس مسطحين.

إن منهج الواقعيّة الطبيعيّة، ليس تسطيحاً في النظرة وإنما تسطيح للإنسان ذاته، ومن حيث أرادت الواقعيّة الطبيعيّة الدفاع عن الإنسان، فإنها ابتسرته وحنطته في الإبعاد البيولوجيّة والفسيولوجيّة وبذلك تكون قد قزّمته، ومددته قسراً على سرير مختبراتها.

بعد تفكك مدرسة زولا ظهرت النزعة اللاعقلانيّة، وهي نزعة تسعى لتحول الرواية أكثر فأكثر إلى تجميع للصور الفوريّة عن الحياة الداخليّة للناس. وأفضت هذه النزعة في نهايتها وعند بروست وجويس إلى تفكك كلي لكل مضمون وللشكل الروائي. ومن الواضح أن تفكك الشكل الروائي كان مصحوباً بتأثيرات عديدة خارج منطق العمليّة الإبداعيّة وضروراتها، وهذه التأثيرات كانت في الأغلب الأعم رجعيّة، عملت على قطع العمليّة الفنيّة عن أي علاقة عضوية مع المجتمع، والأحداث التاريخيّة.

وبهذا المعنى يرتدي قول آرنست فيشر التالي إهمية كبيرة "وجدت جميع النظم الإجتماعية من دافع عنها بقوة ومقدرة في مجال الفن إلا الرأسماليّة، ففي ظلها وحدها نجد الفن كله، فوق مستوى معين من الضحالة، فن احتجاج ونقد وثورة".

ولهذا فليس مستغرباً إنه في ظل الرأسماليّة كانت نتاجات من كانوا ينتمون إلى الفئات السيدة، أو الشرائح الوسطى، بمجملها الأعم تتعارض مع الواقع السائد، وما أفرزه هذا الواقع من ظواهر هي في جوهرها تشكل سبباً لاستلاب الإنسان، وحتى مبدأ "الفن للفن" لو تمعنا في جانب من جوانبه العديدة، لوجدناه احتجاجاً صارخاً على الموقف النفعي الصارخ والإهتمامات الكسبيّة اللاإنسانيّة للرأسماليّة. لقد كان الفنان المبدع، وفي كل المراحل، يرفض بإباء أن يكون إبداعه سلعة في عالم أصبح فيه كل شيء سلعة للبيع.

تعتمد الواقعيّة النقديّة التي تبلورت في خضم الصرعات في المجتمع الرأسمالي على التحليل الإجتماعي بالأساس، هذا التحليل القائم على دراسة الإنسان ضمن مجتمعه وواقعه باعتباره كائنا يعيش ضمن هذا الواقع وفي إطاره، ولهذا فقد أولت الإهتمام الضروري واللازم بما أفرزه المجتمع الطبقي من مآسٍ وآثام ومظالم، وطغت عليها النبرة الإنتقاديّة التي تصاعدت في مواجهة التناقضات العديدة التي أفرزتها الرأسمالية بحيت أصبحت هذه النبرة الإنتقاديّة هي السمة الأساسيّة لهذا المنهج، الذي رأى أصحابه أن الرأسماليّة صيّرت الوجود الإجتماعي داخل نظامها القائم على الإستغلال وجوداً إجتماعيّاً تناحريّاً ومتصارعاً بامتياز، وكان نتاجها بمجمله كشفاً وتعريّة لهذا النظام، وانتقاداً لاذعاً للأسس التي قام عليها، وفي الجانب الآخر اتخذت التيارات الإنحطاطيّة في الفن، باعتبارها ممثلة لمصالح الرأسماليّة موقفاً عدائياً من الواقعيّة الإنتقاديّة، وشنت عليها هجوماً يعتمد على تسخيف منحاها بقصد إبعاد الأدب عن عكس الواقع الموضوعي الذي ليس فيه ما يزكي نظام الإستغلال واستلاب الإنسان.

قراءة في ديوان فاطمة الزهراء فلا علامة استفهام في الحب .

بقلم وحيد السواح

الشعر مرفأ الرحمة من عذابات البشرية ,والوادي الظليل من هجير القسوة واستلاب الإنسانية وتبقي الكلمة الشاعرة رسالة حياة لمن أراد الحياة وصحوة الضمير الإنساني يطلقها الشاعر حيث كان وصرخة الحر رغم كل قيد .

إنه الرقة في كل زمان ومكان , وأهازيج الضمير الإنساني الخالص من شوائب الرداءة.

وفاطمة الزهراء تجسيد لرقة الصوت الشعري الحر المنفلت من ربقة الموروث الساذج إلي أفق التنوير المجدد للمرافق الفكرية الصدئة ,في زمن الصدأ الفكري المتوارث عبر سنوات الجمود والتقليد.

وهاهي الزهراء تناقش في ديوانها كل الصداءات الفكرية في أطروحات دياليكتيكية جدلية كي تعري خطايا الفكر الرديء والمجتمع المستمريء للرداءات من خلال بانوراما شعرية ثائرة علي التردي في أثواب الاستباحة والاغتراب والشات.

إن الزهراء تسعي إلي لملمة النفايات الفكرية المتجزرة في الوجدان الشعبي والجمعي ,وكأنها كاميرا نفسية بين طياتها لتسجل بها تلك الخطرات الكائنة في أعماق المجتمع وواقعه ,من خلال علامات الاستفهام التي تحيل بها القاريء إلي مشارك , إما حائرا متسائلا أو مجيبا واعيا.

وهكذا تدور الشاعرة بكاميرا النفس في سياحة تأملية بين دهاليز الواقع المكبل بسذاجات الموروثات الشعبية من جهة وبالمسخ الفكري الحاضر من جهة أخري كي تجعل من القصيدة أطروحة تناقش العاطفة والعقل في آن . من خلال بعض علامات الاستفهام التي لا تسأل عن مجهول بقدر ما تحمل من دلالات الاستنكارات والاندهاشات من الترديات المجتمعية التي تئن تحت وطأة الاحتلال الموروثي الذي حدد بقسوته إقاماتنا الفكرية تحديدا جبريا.

وهكذا تتلون قصائد فاطمة بحمرة الخجل عندما تتكلس مشاعر الحب وتكفر ثم تسجد لصنم الدولار في زمن المسخ والاغتراب ,والبحث عن القيمة الزائفة بين الدولارات الفرنجية ,والدينارات العربية.

ولعل الشاعرة - في هذا الزخم المتناحر من علامات الاستفهام تسعي إلي صياغة مشكلات الواقع في أطر رومانسية وتقديم رؤية ناقدة لواقع اترأت فيه القيمة , وامتسخ فيه الحب , انطلاقا من روح واعية تؤرجح الشاعرة بين واقع مرفوض , وحلم قادم مأمول يسعي إلي التغيير واختراق المجتمع الشرقي المحموم بهوس الأفكار الحمقاء الموروثة ولعل أبرزها العلاقة المأزومة بين الذكر والأنثي والصراع المرتكز علي طبيعة التكوينات الفسيولوجية والعضوية محل استغراق الفكر الذكوري تجاه الأنثي .

ومن هنا فأن الزهراء تشكل المرأة داخل الديوان بشكل فني أقرب إلي الشعبية منه إلي الخصوصية ,رغم توحد القضايا مهما اختلف التصنيف الطبقي لها, إذ تبقي المرأة هي الضحية الأبدية لذلك الصراع الذكوري الذي يحولها خطيئة من صنع الرجل والذي مسخ الحب تحت فوضي العري , ورائحة الجنس المأجور .

وهكذا تتواصل الشاعرة مع القاريء في لملمة تلك القضايا المجتمعية في بكائية صامتة تطرح من خلالها تساؤلات الأنثي الحائرة عبر العصور.

وعندما تفجر الزهراء في أروقة الأنوثة أحلام البنات والصبايا الضائعة.

وعندما تحن إلي الزمن الجميل ولو بطعم الهزيمة , وأغنيات حليم -الأبنودي الحزينة.

وعندما ترصد المقاطع الحزينة في حياة النساء , وعندما ترقش بالفسيفساء الشعبية علي وجه القصيدة وهنا تظل الزهراء في دائرة جدلية وعلامات استفهام في الحب دائمة لتبقي في النهاية القيمة والحلم بالأمان والنجاة من الانسحاق والاسقرار علي ضفاف النور والبراءة.











ابداعات دقهلاوية




حساسية نقدية مليئة بالسخرية والفكاهة

:21:04


كاتب جزائري يعطر أوهامه الشهية بمشاهد ثقافية


منذ اللحظة الأولى يحاصرك الخير شوار بلعبة تتأرجح بين ما هو حقيقي وما هو طيفي. فأين تكمن الحقيقة؟


بقلم: أحميدة عياشي

كنت في مكتبي عندما دخل علي الزميل الكاتب الخير شوار، وأهداني دون مقدمات، مولوده الجديد المعنون ''الأوهام الشهية، نظرات في مشاهد ثقافية'' شكرته لأنني كنت غارقا في إعداد مقالتي الكروية.

بعد أن انتهيت، تصفحت الكتاب الصادر عن منشورات ألفا، ضمن سلسلة سيتل، قررت أن أحمله معي إلى البيت إلى جانب، كتابين، هما، ''الوصايا المخدوعة'' لميلان كونديرا و''الحشاشون'' لبرنارد لويس.

دخلت المنزل باكرا، ثم دخلت الصالة، ووضعت أمام الطاولة الصغيرة عناوين أخرى كانت على المكتب من بينها ''إدريس'' لعلي الحمامي الذي قام بترجمته أخيرا المترجم الفذ يحياتن.

استلقيت على السرير ووضعت موسيقى هادئة، وشرعت في قراءة ''الأوهام الشهية'' من الصفحة الأولى إلى غاية الانتهاء منه، وهو في الحقيقة من الحجم الصغير، وكانت صفحاته التي ضمت مقالات شوار التأملية والنقدية ذات الأسلوب الراقي والممتع حوالي 119 صفحة.

ومنذ اللحظة الأولى يحاصرك الخير شوار بلعبة تتأرجح بين ما هو حقيقي وما هو طيفي. أين تكمن الحقيقة، حقيقة الأشياء في نسبيتها أو في منطقيتها؟ في تاريخيتها أو في تحولاتها الخادعة؟ في لحظتها المشعة أم في لحظتها القاتمة المشعشة بالظلال؟

تبدو المواضيع متنوعة ومتزاحمة ومسائلة لذاكرة الراهن التاريخي ولراهنية الراهن، لكن في جوهرها هي عبارة عن سؤال واحد، متشعب يجيد لعبته ما بين عالم الظاهر وعالم الباطن. وهذا السؤال هو الشك في كل ما يبدو حقيقي، لأن كل ما هو حقيقي قد ينطوي على كل ما هو وهمي، الجدار الذي يفصل بين سؤال الحقيقة وسؤال الوهم هو جدار شفاف، متلاش ومضلل. كل ما هو وهمي هو حقيقي وكل ما هو حقيقي هو وهمي، كل واحد منهما هو امتداد للآخر والعكس صحيح.

ويبدأ شوار الحفر في لعبة الحكي ولذته الأولى المرتبطة بلحظة الطفولة، ولحظة الطفولة هنا هي أيضا لحظة الزمن البدائي، الزمن البسيط، الزمن القروي الخالي من عقد التكنولوجيا وسطوة الميديا المرئية والسمعية، ليقول لنا شوار، إنه كان زمن الحكاية التي تشكلك، تشكل وعيك لكن تشكل أيضا إنسانيتك ومستقبلك الإنساني، إنه عهد ما قبل سطوة وسلطة التلفزيون، ثم يقودنا شوار إلى لحظته الحميمية المشكاكة فيما تدعيه القواميس، واللغات والأسماء الميتة من سلط وتسلط بحيث تجعل من الأموات هم الحكام الحقيقيين الذين يقودون الأحياء، يتميز نقده لها بالسخرية الخفية، ويطرح علينا من خلال مساءلته لحظة ميلاد الإبداعية التي لا تأتي إلا ضمن قانونها الخاص الذي يتجاوز إرادة المؤلف ذاته.

ويعطي أمثلة على ذلك، غارسيا ماركيز عندما كتب مائة عام من العزلة، وإيكون في اسم الوردة، ونيوتن في تفاحته، وأرخميدس مع حمامه. وفي مقالة ''مدار الحلزون'' يجعل من نيتشه مطرقته ليهشم بها رأس دعاة النمطية وسلطة الأحادية، ليذهب بعيدا بمطرقة نيتشه من أجل تهشيم كل تلك الثقافة الخادعة والمتسلطة والمتسربلة بإيديولوجيا الكلمات الرسمية من مثل الرعاية السامية.

وبالرغم من أن الخير شوار كشف في هذا الكتاب عن قارئ ذكي، وواسع الإطلاع وفي حساسية نقدية مليئة بالسخرية والفكاهة التي طالما نفتقدها لدى الكثير من أدبائنا ونقادنا إلا أنه لم يكن استعراضيا ولا متبجحا، بل حاول أن يكون صوته خفيا، أشبه بالبياض الذي دافع عن جلالته، وأقرب إلى الصمت الخلاق، المبدع، الذي يثير في نفسك شيئا كالهدوء يتحول إلى التفكير معه والتفكير ضد من يكون معه، أي ضد نفسك، وضده وذلك من أجل أن تكون قارئا خلاقا، مبدعا، وقارئا غير تابع ومتلقي وسلبي.

كتاب، أنصح بحب، كل من لا يحب الخير شوار أن يقرأه، فإنه سيكشف شوار لمن لم يكن لديه الوقت، ليعرفه. إنه شوار القارئ، شوار الحفار بصمت وإبداع.

Updated 2010-07-07 18:33:26


إضافة كبرى

ناشرون غربيون: 'عزازيل' جوهرة أدبية فريدة


الصحف الإسبانية تناشد أقباط مصر أن يخففوا من ضغطهم على المفكرين المسلمين من أمثال د. يوسف زيدان.

كتب ـ مصطفى عبدالله

أعلنت دار النشر الشهيرة "أطلانتك" أنها ستصدر الترجمة الإنجليزية لرواية د. يوسف زيدان "عزازيل" مطلع العام القادم. وأعلنت دار النشر الألمانية "راندم هاوس" أنها ستصدر الترجمة الألمانية فى مجلد فاخر خلال شهر فبراير/شباط القادم. وصدرت في شهر فبراير/شباط الماضى الترجمة الإيطالية للرواية، واحتلت بعد صدورها المرتبة الثانية في أعلى الكتب الإيطالية توزيعاً.

يأتي ذلك تزامناً مع صدور الطبعة العربية (التاسعة عشرة) من الرواية التي أصدرتها دار الشروق قبل أقل من عامين، وحصلت العام الماضي على جائزة الرواية العربية العالمية (البوكر).

وفي موقع "بوك سيلر" صرح مدير النشر بدار "أطلانتك" إن حصول الدار على حق ترجمة وتوزيع "عزازيل" يعد إضافة كبرى لرصيد الدار، حيث من المتوقع أن تلقى الرواية رواجاً كبيراً لدى القراء في الغرب. بينما أعلنت كريستين بوب المحررة بدار النشر الألمانية، أن هذه الرواية تعد جوهرة أدبية فريدة في الأدب العالمي.

قام بالترجمة الإنجليزية (جوناثان رايت) المدير السابق للمكتب الإقليمي لوكالة رويترز، وقامت بالترجمة الألمانية المستشرقة المعروفة لاريسا بندر. ومن المعروف أن قائمة الإصدارات الشتوية التي تصدرها في بداية العام كبريات دور النشر في العالم، تضم أهم الأعمال الصادرة عنها.

كما تم هذا الشهر إبرام ثلاثة عقود جديدة لترجمة "عزازيل" إلى التركية والتشيكية والبرازيلية. وذلك بعد توزيع عقد بين الروائي يوسف زيدان ووكيل الكتب البريطاني المعروف أندرو نورمبرج، الذي يتولى المفاوضات مع دور النشر العالمية الراغبة في ترجمة الرواية، وتحصيل حقوق المؤلف.

وحصل زيدان بموجب العقد المبرم، على مبلغ مليون جنيه مصري (حوالي مائة وثمانين ألف دولار) ونظير موافقته على إبرام عقود الترجمة إلى اللغات: الإنجليزية، الإيطالية، الألمانية، اليونانية. وعشرة لغات أخرى عالمية.

وأعربت بعض دور النشر الكبرى في أوروبا، عن رغبتها في ترجمة كتاب يوسف زيدان الأخير الصادر عن دار الشروق "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، وهو الكتاب الذي يحتل منذ صدوره رأس قائمة الكتب الأعلى توزيعاً. ويجرى حالياً التفاوض مع دور النشر الأوروبية، بشأن إصدار ترجمات الكتب.

ومن جهة ثانية، أجَّلت محكمة الإسكندرية بالدخيلة، النطق بالحكم في قضية الحسبة المرفوعة ضد يوسف زيدان متهمة إياه بالاعتداء على التراث الإسلامي! بينما صرَّح النائب العام مؤخراً أنه سيعلن قريباً نتائج التحقيق في الدعاوى المرفوعة ضد يوسف زيدان متهمة إياه بازدراء الديانة المسيحية، وهو ما أثار صدمة في الصحافة الأوروبية، فنشرت "الجارديان" الشهر الماضي ثلاثة موضوعات عن هذا الأمر، بينما ناشدت الصحف الإسبانية أقباط مصر، أن يخففوا من ضغطهم على المفكرين المسلمين من أمثال د. يوسف زيدان الذي يحظى في المجامع الأوروبية بتقدير كبير.

مصطفى عبدالله ـ القاهرة

Published 2010-07-09


قراءة تأملية

رواية جديدة تؤكد أن زيوس يجب أن يموت


رواية أحمد الملواني ذات دلالات سياسية اجتماعية ثقافية شديدة الأهمية تتسم بالتزاوج الموفق بين التراث والمعاصرة.


بقلم: سعيد سالم

أهم قضية تثيرها هذه الرواية الممتازة هي وظيفة الفن ودوره التنويري، خاصة حين يمتزج بالمتعة ويبتعد عن الزعيق والمباشرة.

لقد قدم لنا الكاتب، وهو في عمر الثلاثين، وجبة فنية دسمة، رواها لنا مثقف في عمر الأربعين، ولولا تأكدي من قراءة التعريف بالكاتب (ص199)، ومراجعتي لعمر البطل الراوي من داخل العمل (ص 19)، لقلت إن الراوي هو الثلاثيني، والكاتب هو الأربعيني، فوعي الكاتب سابق لعمره بمرحلة طويلة، وأعتقد أن هذا راجع إلى سببين أساسيين: الأول، هو الموهبة العالية الممنوحة له من خالقه، والثاني، هو ثقافته الواضحة من مضمون النص وشكله الفني وأسلوب صياغته، والتي تؤكد أنه أدرك أهمية أن يصون موهبته وينميها ويصقلها ويحافظ عليها، فبذل لأجلها ما لزم من جهد أسفر عن هذا العمل الفني المدهش الذي يجب أن يحتفي به احتفاء حقيقيا يليق بقيمته الأدبية.

هذه رواية ذات دلالات سياسية اجتماعية ثقافية شديدة الأهمية، تتسم بالتزاوج الموفق بين التراث والمعاصرة، تتعرض لقضية ليست بجديدة، وهي قضية نضال الإنسان المقهور، لمقاومة استبداد الحكام وتسلطهم من أجل انتزاع الحرية المـسلوبة، خاصة في البلاد المتخلفة والمحكومة بعسكر يرون في أنفسهم آلهة (مخلدة) لا يمكن أن تموت، بينما يرون في أفراد الشعب مخلوقات (فانية) تعد في نظرهم قطيعا من العبيد.

ومن الطبيعي أن يتشبث مثل هؤلاء الحكام بمقاعد السلطة طيلة حياتهم، دون أي اعتبار لأحقية الشعب في التغيير والتطور وبث الدماء الجديدة في كيان الوطن بمؤسساته وأفراده. وللتعميم الإنساني في الزمان والمكان، فقد تعمد الكاتب ألا يذكر اسم الراوي من بداية الرواية وحتى نهايتها، وتلك حيلة فنية ذكية، لكنها لن تغيب على فطنة القارىء.

كل ما قيل في هذه الرواية ليس بجديد، من حيث أننا نعرفه من سير الأحداث اليومية في وطننا، ومن قراءتنا للجرائد القومية والمعارضة، ولكن حين تعرض علينا هذه الحقائق من خلال عمل فني، فلا مهرب من أن يرتبط التنوير بالإمتاع، حتى يؤتى العمل أكله المرجو، وهذا ما نجح فيه أحمد الملواني بأن صاغ المضمون فى شكل جميل، رغم أن هذا الشكل هو الآخر ليس جديدا، وهو الحكي على مستويين متوازيين: الأول واقعي، والثاني أسطوري، فالعبرة هنا بكيف تكتب وليس فقط بما تكتب.

يتناول المستوى الأول مأساة المثقف المصري من خلال موقف الراوي وصديقيه محمد عطوه، المعارض الأخواني الذي يعتقله الأمن من حين إلى آخر ليفرج عنه ثم يعتقل من جديد، وعبدالرحمن مكاوي المعارض الليبرالي والمهندس الميكانيكي بإحدى شركات الأدوية، وأستاذهما الثوري الوطني الملتهب حماسا وجرأة: الدكتور يوسف قطيط. ويكشف هذا المستوى الواقعي عن تخاذل بعض المثقفين وتقاعسهم عن أداء دورهم الجوهري في المجتمع الذي ينتمون إليه، انحيازا إلى منافعهم ومصالحهم الخاصة، والتي كان يمكنهم الحصول عليها بشرف وكرامة لو تمسكوا بشرفهم وكرامتهم وتخلوا عن سلبيتهم الإجرامية.

أما المستوى الثاني فهو مستوى الفعل الإيجابي المقاوم المدفوع بإرادة فولاذية ورغبة جارفة في انتزاع الحق والخير والحرية للإنسان، وقد اختار الكاتب أن يكون بطل هذا المستوى هو كرونوس الإغريقى، ليمتعنا بمجموعة منتقاة من الأساطير الإغريقية التي يتم من خلالها ذلك الفعل. وبالطبع لا يحق لنا القول – هنا – بأن التراث العربي يحتوى على نماذج كرونوسية بشكل أو بآخر، كان يمكن استبدالها بالتراث الإغريقى، فدور المتلقى هو القراءة والنقد والاستمتاع، وليس التأليف الذي هو من شأن الكاتب وحده دون تدخل من أحد.

والمثير في الأمر أن البطل في هذا المستوى الأسطوري لم يكن بطلا ثوريا خالصا، وإنما كان بطلا دبلوماسيا براجماتيا، إلى جانب تمتعه بالإرادة الثورية الكامنة في ضميره وقلبه، وفي كل خلية من خلايا جسده، فلا مانع من الميكيافيلية السافرة في خطواته المتعاقبة للانتصار على الآلهة، ولا مانع من الخداع التكتيكي لهم أو الإيقاع بينهم، مستغلا صراعاتهم القاتلة على السلطة ومكاسبها، وخيانة بعضهم البعض وقتل بعضهم البعض، حتى يصل إلى مبتغاه الأخير وهو"الحصول على وعاء الخيرات".

وكما تنقل بنا الملواني برشاقة فنية جميلة بين المستويين، فإني سأتنقل أنا الآخر بينهما، ولكن بحرية أكثر، هي حرية القارىء المتأمل غير المحكوم بإنشاء بناء فني ذي مواصفات خاصة.

فعلى المستوى الواقعي، وعن تخاذل بعض المثقفين واستسلامهم للقهر والتسلط، كان قد سبق لي – في رواية "الشىء الآخر" – أن قسمت المثقفين العرب على لسان أحدهم إلى ثمانية أصناف:

1- المثقف الحاذق الذي يتعيش على رضا الناس والسلطة معا.

2- المثقف الناقد المنخرط في مشروع جمعي.

3- النرجسي الذي يدعي في كل وقت أنه قال ذلك.

4- الخبير الذي يقتصر دوره على تقديم المشورة أو الرأي في حدود ما يطلب منه.

5- المدرس الذي يروي دائما عن غيره.

6- الإشكالي الذي يبحث عن تجاوز يعرف مسبقا أنه لن يطلبه.

7- الأرزقي الذي يكرس همه في الإفادة من الامتيازات الداعمة لمصلحته.

8- العولمي المرتبط بالكومبرادور والشركات الكونية عابرة القارات.

ومن الواضح في اعتقادي أن بطلنا ينتمى إلى الفئة السابعة بوجه عام، وإن حاول أحيانا الانتماء إلى الفئة الأولى، لكنه لم يكن يوما المثقف الوطني الصادق المخلص بأي حال.

ما أتعس أن يعيش إنسان عمره – مثقفا كان أو غير مثقف – وهو يكره حاكم مدينته أو بلده، وفي الوقت ذاته يعدم الأمل تماما في تغييره أو التخلص منه بأية وسيلة غير الموت. إن البطل تؤرقه صورة المسئول الكبير المثبتة على حائط الشارع المواجه مباشرة لبيته بحيث تفرض عليه رؤيته بصفة يومية لعدة مرات رغم كراهيته الشديدة له. إنه زيوس ولا شك في ذلك على مستوى الرمز الأسطوري بما يوحي به الإسقاط من غموض فني شفاف.

"ينظر مباشرة إلى عمق عيني فأشيح بوجهي. اللعنة على هذه الللافتة والصورة السخيفة التي تتصدرها. مامعنى هذه النظرة الغريبة؟ وذلك التعبير المضحك المرسوم على صفحة الوجه؟ بل ما معنى الاحتفاظ بهذه اللافتة الدعائية لانتخابات انقضت منذ أربع سنوات؟". "دائما ينظر باتجاهي مهما غيرت من وضعيتي. وجهه مرسوم بدقة التكنولوجيا الرقمية لأحدث برامج تعديل الصور، ليصير أصغر عمرا وأجمل محيا".

كرونوس عبد فقير بائس ذليل منحوس يعاني الحرمان من الإنسانية. يُقبض عليه ويُقاد إلى الاله الذى يقيد عنقه بطوق وقدميه بسلسلة وينعم عليه بأن يعمل خادما في حاشيته. والراوي ابن كمساري الأوتوبيس الذي رباه والده على الخنوع، بالمشي بجوار الحائط والاستكانة للأسياد لدرجة التظاهر دفاعا عن توجهاتهم حتى لو كانت تلك التوجهات تنادي بالدكتاتورية.

هذا الراوي يغبط صديقيه عطوه ومكاوي على تحمسهما لقضايا الوطن، بينما كل ما يهمه من مكاسب حصل عليها خلال أربعين عاما من عمره هى الجائزة الخليجية عن الرواية التي كتبها.

ويبدو أن اليأس قد أصاب مقاومة عبدالرحمن مكاوي لفترة اعتنق فيها مذهب اللامبالاة، الأمرالذي لم يزعج الراوي في شيء، بل على العكس قد يكون ما حدث على هواه، حتى يصبح الكل في الهم شرق. لكن الدكتور قطيط الذي منعه جهاز الأمن في الجامعة من السفر إلى الخارج لكونه عضوا في جماعة 9 مارس المطالبة باستقلال الجامعة وحرية ممارسة السياسة للطلبة، والذي أصيب بجلطة في المخ، لا يصدق أن يتخلى تلميذه عبدالرحمن عن مقاومته المقدسة للظلم والاستبداد، قائلا إنه يخدع نفسه وقتيا ولكنه سيعود حتما إلى نبله القديم.

وبعد إذلال كرونوس وسحقه والعبث برجولته في بلاط الاله المستبد، فإنه يعرف نفسه بأنه "آدمى سابق". ولكنه يختلف عن الراوي اختلافا جذريا في اعتزازه بأن نقطة السخط بداخله ما زالت تضىء، وأنه مصر على تحدي أربابه ليغير قدره التعيس، فالراوي لاه في فرحته باستضافته في قناة تلفزيونية حكومية يجهل فيها المذيع اسمه ويجهل فيها المعد مضمون روايته.

حين يخرج محمد عطوه من المعتقل ويعلم بمرض أستاذه فإنه يرفض زيارته بالمستشفى مع الراوي حرصا عليه، حتى لا يوضع الأستاذ بسببه في القائمة الأكثر سوادا عند زبانية الأمن. ويشرح الراوي له وجهة نظر زميلهم الثالث عبدالرحمن مكاوي في أصناف الناس إذ يقسمهم إلى أقسام ثلاثة:

1- الحمقى، وعلى رأسهم الأستاذ قطيط الذي لا يفكر في عواقب معارضته الثورية.

2- الوصوليون على شاكلة عطوة المنضم للإخوان بحثا عن السلطة والثروة.

3- السعداء ومنهم عبدالرحمن نفسه صاحب الفتوى، وذلك من بعد اعتناقه فلسفة اللامبالاة.

إذن فإلى أية فئة ينتمى بطلنا؟ إنه شخصيا لا يعرف. هو فقط يكتب رواية عن كرونوس رغم أنه في قرارة نفسه يعتقد تماما أنه "ليس من السهل أن تقتل إلها".

وفي حوار بين عبدالرحمن والراوي أمام اللافتة المزعجة المثبتة أمام بيته، يقول عبدالرحمن عن صورة زيوس الذي لا يموت:

- هى مجرد لافتة مفرغة. الصورة جميلة، ولكن برأيك كم يبلغ حجم الفراغ خلفها؟ هل يظنون أن صورة جميلة بإمكانها أن تداري خرائب أعوام من الهدم؟!

ويندهش الراوي لهذا الموقف البعيد تماما عن اللامبالاة، فيصرح له مكاوي بأنه أفاق لنفسه بعد أن بيعت شركته ضمن برنامج الخصخصة إلى مستثمر أجنبي تسهم معه شركة إسرائيلية، ليصبح سعر دواء الشعب في يد عدوه الأول. وهنا يقدم عبدالرحمن استقالته من الشركة في موقف إيجابي حقيقي يؤكد على صحة نبوءة الدكتور قطيط حول عبدالرحمن.

ويقبض على عطوة من جديد بمجموعة من التهم الخطيرة كغسيل الأموال ومحاولة قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة بالقوة والعبث بأمن البلاد، وبينما يتجرأ الدكتور قطيط المريض على زيارة عطوة في معتقله وينظم مظاهرة احتجاجية بنقابة المهندسين تضامنا مع عطوه الذي تم التحفظ على ممتلكاته وأرصدته البنكية، بحجة أنها مكونة من التبرعات الخارجية للإخوان لإنشاء شركات كبرى تنفق من أرباحها على أنشطتها المعادية للنظام، فإن الراوي الغارق في رماديته السلبية ينشغل بكتابة قصة جديدة مستوحاة من الموقف وعنوانها "حالة مستعصية".

ومن المصادفات الظريفة أن هناك رواية طويلة تحمل نفس العنوان صدرت لي عن روايات الهلال في أغسطس/آب من عام 2002، وهذا يؤكد بالطبع أن أحمد الملواني لم يقرأها، ولهذا فقد قررت إهدائها إليه حين نلتقى تعبيرا عن احترامي الفائق لمستواه الفني الرفيع قياسا إلى سنه.

ويواصل كرونوس السير في طريق التحدى الصعب بأرضه الصخرية المدببة نتوءاتها كالشفرات، فيطعن للاله هيفيستسوس في الاله آرس الذي أهله ودعمه ليكون في هذا الموقف القوي، طعنا قاسيا متعلقا بشرف زوجة هيفستسوس، فينجح في خداعه نجاحا قاطعا، يحصل بموجبه على القوة الخارقة والسلاح البتار.

وحين نبحث عن المرأة في هذا العمل الروائي، نلاحظ أنها تكاد تكون منعدمة الوجود تماما، فيما عدا بضعة سطور قليلة ترد فيها زوجة الراوي كشخصية شديدة الضحالة، لا تهتم إلا بأن يكسب زوجها المال لتنتقل إلى شقة أوسع، وتخاف عليه خوفا هستيريا من المشاركة الإيجابية في أي نشاط معارض أو وقفة احتجاجية سلمية أمام المحكمة تضامنا مع المعتقلين من أصحاب الرأي.

إن غياب المرأة غيابا تاما في هذه الرواية يعد نقطة ضعف بارزة فيها، فقد يفهم من هذا الغياب انعدام دورها تماما في الحياة – وهذا غير صحيح بالطبع لمخالفته للواقع – أو قد يفهم منه تجاهل الكاتب لهذا الدور لأسباب تعود إلى خطأ ما في نظرته للمرأة أو إلى شعوره تجاهها بفوقية غير مبررة، وقد أشار الراوي مرة إلى أنه وعطوة محدودا الخبرة في التعامل مع المرأة، ولكن هذا لا يبرر غيابها عن العمل بهذه الصورة غير الطبيعية.

ومن الغريب أن الراوي الرمادي حين قرر المشاركة في تلك الوقفة الأخيرة ليكتسب لونا ما، فإنه قرر ذلك بدافع نفعي يصب في مصلحة روايته، فضلا عن قبوله دعوة للحوار في قناة فضائية حين التقطته مذيعة من وسط الزحام بعد أن أغرته بالانتشار والشهرة وكذلك بمبلغ كبير من المال سال له لعابه.

في الوقت ذاته يصفع أحد رجال الأمن الدكتور قطيط على وجهه أثناء المظاهرة السلمية فيصاب الرجل بغيبوبة، وتتلف خلايا مخه ويصاب بالشلل من جراء صدمته العنيفة لشعوره بالذل والمهانة والعجز عن المقاومة الجسدية للسلطة الغاشمة. وهذا هو ما حدث ولا يزال يحدث عادة لذوى الحساسية المفرطة من المثقفين الشرفاء من أمثال الراحل الدكتور محمد السيد سعيد، والناقد فاروق عبدالقادر، والدكتور نصر حامد أبو زيد، وقبلهم الدكتور عبدالوهاب المسيري، وغيرهم ممن يتمتعون بالجرأة على تحدي قوى الظلم مهما كان الثمن المدفوع، مضحين من أجل أهدافهم بكل غال وثمين. أما أصحاب المواقف المائعة فإنهم لا يبحثون إلا عن الفائدة، مثلما وجد صاحبنا وسط تلك الأحداث التراجيدية القتلة فكرة "زيوس يجب أن يموت".

قد يقول البعض إننا يجب أن نفرق بين شخصية الكاتب – الراوي في هذا العمل - وما يفرزه من فكر أو فن يقدمه للناس وألا نخلط بينهما، ولا نطالبه بأن يكون مثالا يحتذى أخلاقيا أوعلميا أو ثقافيا، وأنا لا أختلف معهم في ذلك، فلو نجح روائي في كتابة رواية رائعة من طراز "زيوس يجب أن يموت"، وكان الكاتب يتمتع بصفات شخصية كريهة، فشكرا له لما كتب وأفاد، وليذهب بصفاته الكريهة إلى الجحيم.

يقتل كرونوس ابني زيوس الجبارين آرس وهرقل، بعد أن نجح بدهائه في خداع الآلهة الذين سلحوه بأقوى أدوات القتال، وبذلك يتعرى زيوس رب الأرباب من الحماية الأمنية ويصبح جبانا رعديدا شأنه شأن أي دكتاتور محمى بأسلحة رجال أمنه، ولذلك لا يجد أمامه سوى أن يغري كرونوس بالانضواء تحت رعايته أو دخول حظيرته أو الاغتراف من خيراته المسروقة من الشعب. ولم نعرف ماذا قرر كرونوس الذي سبق أن وعد الشعب بإعادة خيراته إليه بعد انتقامه من الآلهة، لكننا نعرف بوضوح أن الراوي أو المثقف الرمادي قد استجاب من جديد لنفس مدير القناة الخليجية لتقديم برنامج أسبوعى يروج لوجهة نظر القناة لقاء مبالغ خرافية، فيشتري الشقة الجديدة الواسعة والعربة الفارهة، وطظ في قطيط بكل ما يعنيه من قيمة ورمز ومعنى، أمام شهرته التي دوت في الآفاق، وأمام الدولارات التي انهالت عليه، وانهالت معها مكالمات تليفونية من شخصيات لم يكن يحلم بمقابلة أصحابها ولو صدفة، كما امتنع الهاتف عن استقبال شخصيات أخرى لم يعد لوجودها أهمية في حياته الجديدة، وهذا هو شأن كل الانتهازيين في كل زمان ومكان. ولعلنا نلحظ في حياتنا الثقافية منذ ثلاثة عقود، ذيوع أسماء كثيرة لدرجة كبيرة دون وجه حق، نتيجة اختلاف مقاييس الذيوع الحقيقي في مجتمع لا يعرف معنى الحرية، ومناخ لا يعرف العدل، حيث ينبذ المناخ الديموقراطي فكرة أن تختفي الكفاءة الحقيقية، ويطفو الغثاء على السطح، فالحرية والديموقراطية مرتبطان دائما بالعدالة.

في النهاية نجد أنفسنا في مواجهة الرمادي الجديد وكرونوس الجديد، في ختام متفرد للرواية تحت عنوان "صفر". بينما يفاجأ صاحبنا بما اعتقد أنه هرب من رؤيته أمام بيته القديم، مثبتا في مواجهة بيته الجديد. نفس الجمود ونفس التبلد ونفس التحجر ونفس التخلف ونفس التسلط ونفس الابتسامة الزائفة. ابتسامة زيوس الذي لا يموت، والذي يجب أن يموت.

سعيد سالم ـ روائي مصري

بُعد وطني في ثياب عمل فني



'فتاة الحلوى' تفضح الواقع بعد عودة عالم نووي من العراق


رواية محمد توفيق تدخل بنا إلى عوالم صادمة ومرعبة شديدة الغني والتنوع من خلال بداية إنسانية لعالم مصري.


كتب ـ مصطفى عبدالله

"فتاة الحلوى" رواية جديدة للكاتب محمد توفيق، صدرت حديثًا عن الدَّار المصـرية اللبنانية في 264 صفحة من القطع المتوسط. وهي رواية ذات طابع ملحمي، تدخل بنا إلى عوالم صادمة ومرعبة، شديدة الغنى والتنوّع؛ حيث تبدأ الرواية من لحظة إنسانية صغيرة لعالِم مصري كان يعمل في المفاعل النووي العراقي، وتصبح حياته مهددة بعد سقوط بغداد، عندما تتبعه وتطارده مخابرات أكثر من دولة للحصول على الأسرار التي لديه. ومن هذه اللحظة البسيطة، وهي لحظة استقراره في بلده، تتشعب الرواية لترصد العديد من المتغيرات التي جرت في العالم ومن ثم الوطن العربي، وعلى نطاق أضيق المجتمع المصري، الذي يحاول العالم المصري الاختباء بين شعبه.

وفي محاولة الاختفاء والتخفي التي يسلكها البطل "المخِّيخ" تدخل الرواية إلى وقائع اغتيال العلماء العرب من قِبَل الغرب، والهيمنة الإسرائيلية، ومحاولة أميركا إضعاف الدول العربية حتى لا تخصم قوة أي دولة فيها من قوة إسرائيل، نزولا إلى الواقع المصري الذي يعج بالفساد من شيوخ الفضائيات، والخونة وبائعي الأوطان، وفتيات الليل، وبنات الشات، وزواج المتعة، والقرآنيين .. إلخ ما تحفل به رحلة الراوي في محاولة تخفيه.

تكتسب الرواية ووقائعها مصداقية شديدة من خلال خبرة كاتبها الذي قضى سنوات عمره في السفر ومعايشة الغرب من خلال إقامته في سويسرا، وأستراليا، واشتراكه في العديد من المحافل الأدبية الدولية، وعضوية الاتحادات العالمية، فهو أحد أهم الكتاب العرب في الخارج، وصدرت له العديد من الأعمال الأدبية مثل: "ليلة في حياة عبد التواب توتو" التى تتناول جيل السبعينيات في مصر ومظاهرات الطلبة والإرهاب، و"طفل شقي اسمه عنتر"، بالإضافة إلى مجموعتين قصصيتين هما: "الفراشات البيضاء"، و"عجميست" مجموعة قصصية باللغة الإنجليزية.

كذلك فإن الكاتب محمد توفيق أحد المساهمين بمقالاته وآرائه وتحليلاته في الصحف والدوريات العربية والمصرية، وعضو اتحاد كتاب مصر، ومجموعة كتاب جنيف، ونادي القلم الدولي، والمستشار الأدبي لمنتدى الكتاب العربي، وعضو اللجنة المنظمة للمؤتمر العالمي للكتاب الذي يعقد في جنيف مرة كل عامين.

لكل هذه الخبرات تأتي كتابة محمد توفيق معبرة عن واقعها بفهم شديد؛ فهي تنطلق من محفزين مهمين الأول، شخصي: يتعلق بقدرات الكاتب مبدعًا وفنانًا يمتليء بالخبرات الحياتية والمعرفية، ويستطيع التعبير عن تلك الخبرات بلغة أدبية راقية، والثاني مجتمعي يرتبط بمجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وظهر ذلك بشكل واضح في روايته "طفل شقي اسمه عنتر" مثلا، التي ترصد التطوّرات التي طرأت على المجتمع المصرى بحلول نهاية القرن العشرين، وتأتي الرواية الجديدة لتكمل تلك الحلقة الممتدة محليا وعالميا، حتى أن محمد توفيق يستعير شخصية "المخيخ" من إحدى رواياته السابقة ليكون بطل روايته الجديدة.

يقول الكاتب: "أعتبر شخصياتي أشخاصًا من لحم ودم ولا أتعامل معهم كرموز أو كمعانٍ، وإن كنت أحرص على أن اختار لكل شخصية الاسم الذي يناسبها، وكل من هذه الشخصيات يواجه مأزقه بطريقته الخاصة".

أغلب شخصيات المؤلف لها بُعد وطني دائم التفاعل مع القضايا الوطنية والقومية؛ حيث يرى المؤلف أن الغرض الرئيسي للأدب هو خلق عمل فني بحت بعيد كل البعد عن التلقين أو الموعظة أو الرسالة الأيديولوجية المباشرة، وإنما تصل الرسالة عبر الاستمتاع الجمالي بالعمل الفني، فالأديب لا يستطيع أن يعزل نفسه عن قضايا مجتمعه، حيث الصدق مع النفس شرط حاكم للإتقان الفني، وبالمقابل فالصدق الفني شرط حاكم لتقبل القارئ للرسالة الاجتماعية التي يحملها العمل الأدبي؛ لذلك يجمع عمل محمد توفيق دائمًا بين البعدين الجمالي الفني ومعالجة واقعه دون أن يأتي أحدهما على حساب الآخر، في صيغة فنية بالغة الثراء والدلالة، في واقع امتلأ بالروايات التي تعتمد على السيرة الذاتية وتفتقد إلى العمود الفقري والبناء المحكم.

مصطفى عبدالله ـ القاهرة

كتاب الأغاني للضمراني

59


السنباطي وأطلال ناجي وخصام مع أم كلثوم

مصطفى الضمراني يروي حكايات أغاني الزمن الجميل


'حكايات الأغاني' يستعرض تجربة غنائية وفنية شاءت لمؤلفها أن يكون شاهدا على أكبر نهضة موسيقية غنائية في مصر.

كتب ـ المحرر الثقافي

يستعرض الشاعر الغنائي مصطفى الضمراني تجربته الغنائية والفنية في كتاب جديد بعنوان "حكايات وراء الأغاني"، باعتباره شاهد عيان شاءت ظروفه أن يكون معاصرا ومتابعا لأكبر نهضة موسيقية غنائية قادتها مصر وانتشرت في كل أرجاء الوطن العربي، وشارك فيها نخبة من كبار الشعراء المصريين والعرب وأساطين التلحين ونجوم الغناء من المطربين والمطربات، الذين صنعوا معا لأمتهم العربية ما يرى كثيرون أنه "زمن الفن الجميل"، والذين قدموا أروع القصائد والأغنيات، التي لا تزال تعيش في وجدان الشعب العربي حتى الآن وتتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل.

• "إنت عمري" في لقاء السحاب بين أم كلثوم وعبدالوهاب

ما حكاية لقاء عبدالوهاب بأم كلثوم لأول مرة في "إنت عمري" رائعة أحمد شفيق كامل التي أطلق عليها الصحفي الكبير جليل البنداري لقاء السحاب؟

يروي المؤلف قصة اختيار عبدالوهاب شكل الأغنية التي جمعته لأول مرة مع كوكب الشرق، وأسباب تخوفه من خوض هذه التجربة، وتفضيله أم كلثوم على نفسه ومنحها كلمات الأغنية واكتفائه بتلحينها، رغم أنها كانت في الأصل مكتوبة ليغنيها هو، واحترامه الشديد لزملائه بحيث لم يخبر أحدا قط بهذا السر الذي ظل بينه وبين أحمد شفيق كامل، كاتب الأغنية، حرصا منه على مشاعر أم كلثوم، ولأنه كان على علم أنها لو عرفت بأن الأغنية مكتوبة في الأصل لغيرها سترفضها حيث يستحيل عليها أن تأخذ أغنية كانت مكتوبة لغيرها.

وأثناء البروفات اكتشف عبدالوهاب أم كلثوم الشاعرة، وذلك عندما طالبت بإجراء تعديلين على كلمات الأغنية، وبالفعل كان اختيارها موفقا جدا ومثار إعجاب من الجميع.

وأذيعت الأغنية وحققت نجاحا كبيرا. وكانت آخر أغنية يتم تقديمها على مسرح الأزبكية في عام 1964.

• "حب إيه".. أول لحن لأم كلثوم من بليغ حمدي

ما هي أيضا قصة اكتشاف بليغ حمدي الملحن ذي السادسة والعشرين؟

يروى المؤلف قصة استماع أم كلثوم إليه في فيلتها وهو يغني بصوته الجميل أغنية (حب إيه.. اللي أنت جاى تقول عليه) لعبدالوهاب محمد، ليحفظها ابن شقيقتها، الصوت الجديد إبراهيم خالد، فتختارها أم كلثوم لنفسها وتفتح لبليغ وعبدالوهاب محمد، كاتب الأغنية، أبواب الشهرة على مصراعيها ليكون أول ظهور لهم أمام الجمهور لأغنية لسيدة الغناء العربي وكوكب الشرق.

وكيف قادت الصدفة عبدالوهاب محمد ليقدم لأم كلثوم ثلاث أغنيات أخرى من كلماته عندما نسى الأجندة التي يدون فيها كلمات أغانيه في صالون فيلا أم كلثوم، وقامت أم كلثوم باختيار ثلاث أغان منها قامت بغنائها في مواسم لاحقة.

• "فكرونى" وفاصل من العزف المنفرد على الطبلة

استحدث عبدالوهاب أثناء تلحينه لأغنية "فكروني" لأم كلثوم أسلوبا منفردا جديدا كان مثار إعجاب واهتمام خبراء الموسيقى في الوطن العربي، بحيث استخدم الطبلة وانفرد بتغيير واستحداث نمط استخدامها، ليبدع لها في الكوبليه الأخير لأغنية "فكرونى" صولو على الطبلة مقننا ومدونا بالنوتة أمام عازف الطبلة (كتكوت الأمير).

ويروي لنا الضمراني إحدى الطرائف، التي كان شاهدا عيان عليها، عندما طلب عبدالوهاب من كتكوت التوقف عن العزف، وجلس هو على الكرسي مع الفرقة الموسيقية وقال له "شوف أنا باعمل إيه؟"، وأمسك بالطبلة وقام بعزف الصولو المنفرد عليها، وأعضاء الفرقة مبهورين بأداء عبدالوهاب على الطبلة، ويستمعون بشغف شديد إليه، وهو يعطى الدرس للعازف الشاب، مما أثار انتباه عازف الكمان الأول أحمد الحفناوي ليقول للأستاذ وهو في قمة سعادته وبابتسامته الحلوة: "صحيح يا أستاذ إنك موسيقار الأجيال، وها هو واحد من الجيل يتعلم منك"، وكيف أصبحت هذه الصورة لعبدالوهاب وهو يقوم بالعزف على الطبلة وأمامه كتكوت الأمير هي صورة الصفحة الأخيرة بالأهرام في اليوم التالي، عندما تسلل هو والمصور ايميل كرم إلى استديو التسجيل وقاموا بالتحايل على أم كلثوم، رغم تعليماتها المشددة بسرية التسجيل.

• السنباطي وأطلال ناجي وخصام مع أم كلثوم

يحكي لنا المؤلف قصة "الأطلال"، رائعة شاعرنا الكبير إبراهيم ناجى، وكيف تعطل تقديمها على المسرح أربع سنوات بسبب خصام وقطيعة بين السنباطي وأم كلثوم؟ عندما اعترضت على "قفلة" الأغنية في نهاية "الكوبليه" الأخير الذي يقول فيه ناجي: "لا تقل شئنا فإن الحظ شاء". عندما قالت للسنباطي: "الطبقة عالية يا رياض عايزاك تعدلها"، فاشتاط السنباطي غضبا وألقى بعوده على الأرض وخرج مسرعا من فيلتها عائدا إلى بيته متعجبا من موقفها الجديد والمفاجئ الذي لم يتعوده من قبل، وهي التي تربت على ألحانه ولم تعترض مرة على نغمة واحدة من ألحانه طوال نصف قرن. كما كان له دلاله الخاص عند أم كلثوم، وهو المستثنى من قاعدة الطاعة الكاملة لكل ما تقوله أم كلثوم. فلماذا فشلت محاولات الصلح بينهما طوال هذه المدة؟ لتتم في النهاية بشروط السنباطى وتغنيها أم كلثوم دون تعديل وتحقق نجاحا منقطع النظير خاصة في الكوبلية الأخير.

• أم كلثوم وسيد مكاوي.. "يا مسهرني"

يروى المؤلف قصة أول تعاون يجمع بين أم كلثوم والشيخ سيد، وكيف أنه ذات ليلة وهو جالس يدندن على عوده ليلا واليأس يملأه متسائلا عن عدم تعاونه مع الست حتى الآن باعتبارها المقياس الحقيقي لنجاح أي فنان، فجأة رن جرس التليفون آتيا بالصوت الرنان لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، ليكون بمثابة الشمعة التي أعادت النور إلى ظلمات آمال الموسيقار الكبير، صاحب الطابع الشرقي الأصيل، سيد مكاوي طالبة مقابلته، وكيف أن هذه المكالمة كانت قد جاءت بعد مطالب كثيرة من جانب كبار المفكرين والنقاد الفنيين إلى أم كلثوم للتعاون مع الملحن سيد مكاوي وتأكيدهم لها أن تعاونهم لو تم سيعيد للمستمع أصالة سيد درويش وزكريا أحمد. وبالفعل تمت المقابلة في اليوم التالى وعرض عليها أغنية "ماخطرتش على بالك يوم تسأل عني .. يا مسهرني" وقد أعجبت بها كثيرا. وأحست بمجرد سماعها لكلمات الأغنية أنها كلمات رفيق عمرها أحمد رامي.

وتم العمل على الأغنية، وعند بداية التسجيل طالب الشيخ سيد استبعاد جميع الآلات الغربية من الفرقة، وقد أسعدت هذه المفاجأة أم كلثوم بشدة ليخرج لنا لحنا شرقيا أصيلا.

• "رسالة من تحت الماء" تعيد عبدالحليم إلى الموجى بعد انقطاع 5 سنوات

يحكى المؤلف قصة الخلاف الذى نشب بين عبدالحليم حافظ ورفيق مشواره الفني محمد الموجي مما أدى إلى انقطاع عدة سنوات، حتى جاءت قصيدة "رسالة من تحت الماء" للشاعر الكبير نزار قباني لتكون فاتحة الخير وحمامة السلام التي يتم بسببها الصلح وعودة المياه إلى مجاريها بين رفيقي الدهر، ويتم الصلح في المغرب وعند عودتهم إلى القاهرة يبدأ العمل. ولكن القدر لم يشأ أن تظهر القصيدة في موعدها المقرر، بسبب الوعكة الصحية التي ألمت بالعندليب، وسفره للعلاج في الخارج، والذي على الرغم من اشتداد مرضه لم يتوقف عن التفكير في القصيدة، وكان يتابع العمل عليها وهو على سرير المرض، حيث قام بتسجيل القصيدة على شريط كاسيت بصوت الموجى لحفظها، وكيف أعاده عبدالحليم حافظ وهو على فراش المرض، بمستشفى لندن كلينك، إلى الموسيقار محمد الموجى يطلب تعديل اللحن في مقطع "إني أتنفس تحت الماء إني أغرق أغرق"، كما قام بتعديل كلمة "عاشقة" لتتناسب مع كون المغني رجلا، وبالفعل قام نزار قباني بإجراء التعديل.

وبعد شهر يعود عبدالحليم إلى أرض الوطن، لتبدأ بروفات الأغنية مع الفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن ويغنيها عبدالحليم في حفل أضواء المدينة، وتحقق نجاحا غير مسبوق لمع معه اسم شاعرنا العظيم نزار قباني في الوطن العربي كله.

• "المركبة عدت" مع عبدالوهاب وحليم

يروي المؤلف حكايته مع أغنية "المركبة عدت" وكيف أن الصدفة التي جمعته مع عبدالحليم حافظ كانت هي السبب وراء هذا التعاون حين علم منه أنه وعبدالوهاب كانوا قد قررا أن تكون مشاركتهم في مناسبة غعاده فتح قناة السويس للملاحة الدولية بأغنية جديدة يتم أذاعتها يوم الافتتاح.

وكيف أن سبب تعطلهم عن العمل هو بحثهم عن كلمات تصلح لهذه المناسبة، وطلب منه الاتصال به أو بعبدالوهاب في حالة كتابته لكلمات أغنية وطنية، حيث كانت كتاباته الوطنية جيدة وتعبر عن المشاعر الجياشة لأبناء هذا الوطن، وكانت قد أذيعت له أغنية "حبايب مصر" بصوت عليا التونسية، وأعجبوا بها كثيرا.

وبالفعل عرض عليه أغنية "المركبة عدت" ولحنها عبدالوهاب وغناها عبدالحليم وأذيعت في موعدها وحققت نجاحا كبيرا.

وكيف أنه ـ وعلى الرغم من هذا النجاح ـ انضمت هذه الأغنية إلى قائمة أغنيات اليوم الواحد، وهذا اغضب عبدالوهاب بشدة مما جعله يتصل بسامية صادق، رئيس التليفزيون في ذلك الوقت، ويقول لها: "إذا كانت المراكب اللي قدامك بتعدي في النيل كل يوم ليل ونهار طيب ليه مركبتى أنا ما بتعديش قدامك إلا يوم 5 يونيو فقط وتتعطل طول أيام السنة؟!"

• "أيظن" بين نجاة ونزار قباني

يروى المؤلف المشاكل والصعاب التي واجهت أغنية "أيظن": ففي البداية مشكلة احتكار شركة محمد فوزى "مصر فون" لصوت نجاة، واحتكار ألحان عبدالوهاب لشركة "كايروفون"، فنجاة لا تستطيع تعبئة القصيدة على أسطوانة نتيجة عقد احتكار الشركة لصوتها، وعبدالوهاب لا يستطيع طبع القصيدة أيضا على أسطوانة مخالفا للعقد المبرم بينه وبين الشركة، وتعطل لذلك تسجيل الأغنية، حتى اجتمع نزار قباني بنجاة وعبدالوهاب وقرروا تسجيل الأغنية للتليفزيون.

ثم تأتي مشكلة ظهور القصيدة بصوت عبدالوهاب في الأسواق مما أغضب نجاة ونزار قباني وعبدالوهاب على السواء.

كما أثيرت مشكلة أخرى تتعلق بكلمة "فساتينى" وانقسم النقاد إلى قسمين بسبب فَرنسة هذه الكلمة وأنها دخيلة على اللغة العربية، إلا أن هذا لم يغير من شيء في الكلمات، ومرت الأغنية كما هي بدون إجراء أي تعديل عليها.

• "وقدرت تهجر".. أعادت فايزة لعبدالوهاب

حكاية الانقطاع الذي دام أكثر من ثماني سنوات بين عبدالوهاب وفايزة أحمد. فقد أحس الجميع أن الوقت قد حان لكي يلتقيا من جديد، بعد أغنيته الشهيرة التي لحنها لها وهى أغنية "بصراحة" التي أحدثت دويا كبيرا في الأوساط الغنائية من كلمات حسين السيد، حتى جاء له ذات يوم حسين السيد وعرض عليه كلمات أغنية جديدة بعنوان "وقدرت تهجر" وأحس عبدالوهاب أن هذه الكلمات تصلح لتغنيها فايزة وبالفعل عرضها عليها وقامت بغنائها وحققت نجاحا منقطع النظير بعد إذاعتها بصوت الحالمة فايزة احمد وألحان موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وكلمات حسين السيد وبعزف فرقة سامى نصير التي تضم أسماء كبار العازفين الذين كانوا في فرقة أم كلثوم.

• شادية تغني للنادى الأهلي

فكر مجلس إدارة النادى الأهلي أن يستهل موسمه الرياضي بإقامة حفل غنائي في حديقة النادي يشهده جمهور الأهلاوية وتنقله الإذاعة والتليفزيون على الهواء. واهتدى تفكير المجلس إلى الفنانة المحبوبة شادية لإحياء هذا الحفل والتي رأت أن تهدي النادي في هذه الليلة لحنا جديدا لضابط القوات المسلحة الموهوب موسيقيا الفنان خالد الأمير. وقد قام الشاعر الرقيق عبدالوهاب محمد بكتابة أغنية "اتعودت عليك"، وحدثت المفارقة الطريفة عندما ذهب الموسيقار بليغ حمدي إلى شقة شادية لمتابعة الحفل وتسجيله وانتظارها حتى عودتها، وفي الوقت نفسه كانت شادية قد طلبت من خالد الأمير انتظارها في شقتها وعندما حضر جلسا الاثنان دون كلمة واحدة لانشغال بليغ بالتسجيل. وعندما عادت شادية تبادلوا التهاني وأشاد بليغ كثيرا بروعة اللحن وطلب منها أن تجري الاتصال بالملحن ليهنئه بليغ شخصيا، وهو لا يدري أنه بجانبه منذ وقت طويل.

من الطريف أيضا أن أجر خالد الأمير عن تلحينه لأغنية "اتعودت عليه" كان 18 جنيها فقط، والذى لم يكف حساب البوفيه عن المشاريب أثناء مدة العمل داخل الاستديو، الذي وصل إلى 25 جنيها، أما أجر عبدالوهاب محمد عن كلمات الأغنية فكان 10 جنيهات فقط!

• بليغ وميادة الحناوي.. و"الحب اللي كان"

ما الأسباب التي اضطرت بليغ حمدي إلى السفر خارج البلاد لمدة 5 سنوات، وكيف أن هذه السنوات المليئة بمرارة الغربة فجرت شاعرية بليغ، عندما قام بكتابة كلمات أغنية "أنا بعشقك" لميادة الحناوي والتي حققت نجاحا كبيرا، وتأتي مرة أخرى ميادة الحناوي، في موعد مع النجاح، لتطلب منه تلحين أغنية أخرى تفتتح بها موسمها الغنائي تكون من تأليفه أيضا. وبالفعل يفاجئها بأغنية "الحب اللي كان" التي أشاد كل من سمعها بأن بليغ كان في أعلى قمته كشاعر مبدع عند كتابته.

• عليا وبكر.. وأغنية العبور

"محدش يسأل مصر ادتو إيه، إحنا نسأل نفسنا الآن ح ندي إيه لمصر، لا بد أن يتكاتف كل الشعب مع مصر في هذه الظروف لنرد لها اعتبارها، وننسى أنفسنا في سبيل نهضتها وانتصارها". يروي المؤلف كيف كانت هذه الكلمات للرئيس الراحل أنور السادات هي الحافز لكتابته كلمات أغنيته الرائعة "حبايب مصر" ومقابلته مع ملحن الأغنية حلمي بكر والذي بدوره أخذه الحماس الوطني هو الآخر. وقاما بوضع الكلمات والألحان في جلسة واحدة على الرغم من مرض بكر وحرارته المرتفعة. والصدفة التي قادت إليهم عليا التونسية لتكون الأغنية من نصيبها لتغنيها.

وبالفعل تم الانتهاء من البروفات وجاء وقت التسجيل، وكأن الله شاء أن تظهر هذه الأغنية في هذا التوقيت، حيث كانت المشكلة التي تتعرض لها أي أغنية، هي الروتين البطئ. ومرة أخرى يكون القدر رقيبا على هذا العمل، عندما يطرق باب شقة حلمي بكر صديقه الراحل المخرج الكبير محمد سالم، مراقب عام المنوعات بالتليفزيون، الذي أعجب بالأغنية بشدة ويعلم بالمشكلة، وعلى الفور يتصل بمكتبه ويحدد ميعاد تسجيل الأغنية في اليوم التالى، ويسعد الجميع بشدة لهذا الحل السريع، وبالفعل تم التسجيل في الموعد.

والمفاجأة الكبرى كانت إعلان بيان العبور في اليوم التالى للتسجيل لتتم إذاعة أغنية العبور "حبايب مصر" احتفالا بنصر أكتوبر وتنتشر الأغنية على كل الإذاعات، وتصبح نشيد الصباح في المدارس.

• يذكر أن الشاعر الغنائي مصطفى الضمراني حصل هذا العام على جائزة التفوق في الآداب التي تمنحها وزارة الثقافة المصرية، وله عدد من الدواوين الشعرية، والمؤلفات الفكرية، منها "رؤية ثقافية معاصرة" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويناقش فيه عدة قضايا فكرية.