عادل عصمت واحد من الكتاب المقلين في أعمالهم، والصحيح أن أقول إنه من المتأنين الذين يصبرون علي العمل ليكتمل وتتشكل لديه القدرة علي الإضافة لأعمال الكاتب. كان عمله الأول "هاجس موت" عام 1995 وكان له صدي كبير، ثم "الرجل العاري" عام 1998، والثالث "حياة مستقرة" عام 2004، ثم جاء العمل الرائع "أيام النوافذ الزرقاء" عام 2009 الصادر عن دار شرقيات. يعمل عصمت علي نسج التفاصيل، (ومن هو الكاتب الذي لا يعمل علي ذلك؟) لكن عصمت يمسك بالتفصيلة ليمعن فيها النظر بحثا وكتابة ليصل إلي آخر مداها، يستنطق كل تفصيلة حتي النهاية لتفيض بالدلالة الكامنة فيها، مما يحول التفصيلة من عابرة عادية إلي علامة تدل علي ما خارجها، كأن تتحول النوافذ الزرقاء (المغطاة بورق أزرق في أوان غارات الحرب) إلي علامة تؤطر شخصية الجدة: أم نبيل. لا يترك عادل عصمت شخصية الجدة هكذا في الفراغ السردي، بل إنه يبرر لظهورها، ويبرر لهيمنتها علي السرد بشكل كامل. فالراوي يعيش "الآن" في إمارة الشارقة، "هنا، في تلك المدينة الخليجية، يمر اليوم وراء الآخر، أخمن تقريبا ملامح ما سيحدث غدا، وفي الأسبوع القادم والشهر القادم..." (٧) في ظل هذا الخواء، يحاول الراوي فهم سبب وصوله إلي هذه النقطة علي المستوي الجغرافي والنفسي، "لم أستطع العثور علي ذلك الذي أعاق حياتي عن الجريان" (7) حين كانت حياته تسير بهدوء في طنطا، تلك المدينة المصرية التي تتسم دائما بالرزانة وتوحي بالاطمئنان في معظم الكتابات الإبداعية. في ظل هذا الخواء أيضا، وفي ظل محاولات التواصل مع هؤلاء الباقين من العائلة وبالتحديد الخال "محمود"، يستعيد الراوي- أو بالأحري يحلم بما حلمت به جدته من قبل. إنها محاولة استعادة الماضي الذي ولي، محاولة الفهم، محاولة إضفاء معني علي الخواء، التي تدفع الراوي إلي استنساخ ما حلمت به جدته: طائر أبيض يقتحم الغرفة عبر النوافذ الزرقاء. ولأنه "لم تعد لجدتي غير الصورة الذهنية التي يكونها كل منا لها. لم تعد لها إلا تلك الصورة الشخصية الخاصة بكل فرد علي حدة" (9) يستعيد الراوي علي مدار العمل بأكمله قصة جدته. ولأن الراوي كان مهددا بالعمي في صغره فقد كان عليه ملاحظة التفاصيل وتخزينها في الذاكرة ليعيد اجترارها فيما بعد، "أدركت أنه لا يمكن تخزين صورة طبق الأصل من الأشياء في الذهن، وأقصي ما يمكن عمله هو تخزين صورة تقريبية" (49). ما يهم هنا هو أن الراوي في استعادته للأحداث يعلن أنها رؤية خاصة به، إنه فعل التذكر والاسترجاع الذي يلجأ إلي الخيال فلا يعود الحدث هو ما وقع فعليا. تدفع الجدة عجلة السرد للدوران، وهو الدوران الذي يستدعي قصة حياة عائلة بأكملها، قصة مدينة، قصة زمن، قصة العلاقات الاجتماعية والعائلية، حيث تحتل الجدة المركز السردي بأمومية كاملة فتكتسب القصة بأكملها مسحة من الشجن المدهش الذي لا يمكن الإمساك به لأن الجدة- كأي مركز أمومي- تخفي الأحزان بقدر استطاعتها. لم تكن الجدة تعبر عن نفسها بوضوح إلا في فعلين: الأول تعبيري والثاني يدوي. فعن النوافذ الزرقاء كانت دائما ما تتذمر، "روحي ها تتطلع" في إشارة إلي تحول لون الضوء الطبيعي إلي اللون الأزرق، وأما الفعل اليدوي فهو رتق الملابس بشكل مستمر يصل إلي كونه طقسا مقدسا مع احتلال علبة الخياطة (علبة حلويات شركة كورونا) مركز الكون تقريبا. في تعبير الجدة عن نفسها ينفتح الأفق السردي لتضمين الكثير من الحكايات، فالنوافذ الزرقاء هي علامة الحرب بدءا من 67 وحتي حرب الاستنزاف التي استشهد فيها الخال فؤاد، وعاد منها الجار سامي وهو يهذي (بعد زيارة قصيرة للمباحث العسكرية). تستمر النوافذ الزرقاء في الحضور بكثافة خانقة للجدة وبلون يغير لون الحياة الأصلي مما يستدعي إثارة فضول الراوي فتقرأ له الجدة بعض ما يكتب في الصحف لتحضر الذاكرة السياسية بالقدر المطلوب: مبادرة روجرز وزيارة عبد الناصر لروسيا علي سبيل المثال. علي مدار الرواية لا تختفي مطلقا علبة الخياطة- الضرورية لكل فرد- وحتي عندما قامت أم وداد بإخفائها اعتقادا منها أنها مسكونة بالأشباح بقيت علبة الخياطة الحاضر الغائب. تبدو عملية رتق الملابس التي برعت فيها الجدة فعل مصري بامتياز، فلا يخلو منزل من علبة الخياطة. إلا أن الجدة علي مر الزمن تحول معها رتق الملابس إلي طقس تستغرق فيه تماما، تداري به أحزانها، تتذكر أثناء القيام به كل الأحبة، تصنع الحواجز النفسية حولها فلا يستطيع أحد أن يقطع أو يقاطع الطقس (وهو ما حدا بأم وداد أن تخاف من علبة الخياطة). تحول الطقس إلي "دواء لجدتي التي لم يعد يمر يوم دون أن تبحث عن ملابس ترتقها، وإن لم تجد، تعيد رتق ملابس قديمة لم يعد يلبسها أحد، وفي نهاية كل جلسة، تبدو عيونها أكثر اتساعا ولمعانا" (25). تبدو الجدة في ذلك وكأنها الطبعة المصرية من بينيلوب- زوجة عوليس في الأوديسا والتي انتظرت عودته 20 عاما- التي كانت تنتظر عودته وتحاول صرف الرجال الكثيرين حولها عبر إيهامهم أنها تجهز فستان الزفاف، فتغزل الفستان ثم تنقض غزلها لتستعين علي الانتظار ولتكسب المزيد من الزمن دون أن ينكشف أمرها. تستعين الجدة- بالمثل- علي الشدائد برتق الملابس، فتصمد في وجه غياب نبيل، وموت فؤاد، ومن قبلهما موت يوسف زوجها. عندما تختفي عادة رتق الملابس من حياة الجدة- ومن قبلها علبة الخياطة التي أخفتها أم وداد- يقترب ميعاد رحيل الجدة من هذا العالم، وتحتل أم عايدة الجارة محل الثقة التي كانت تتمتع بها علبة الخياطة. بهذا الحضور الكثيف تبقي الجدة متمركزة في حياة الراوي عبر الأحلام، "في تلك المدن التي تشعر بأنها مرسومة بالطباشير علي الحائط، تورطت أكثر في الاهتمام بالأحلام، باعثا تلك العادة القديمة في حل الألغاز" لم يستغل الراوي سلطته في الحكي، ولم يحاول رسم صورة أشخاص يتجاذبهم الحنين للبيت القديم. وبعد أن قام بتصحيح نظره بعملية الليزر ظل محتفظا بالبيت القديم وكأنه حلم، حيث حدث ما حدث في الماضي الذي لم يبق منه سوي "الصور البسيطة التي تساعدني علي انقضاء الحياة". كما كانت الجدة تواجه الشدائد برتق الملابس، يواجه الراوي الخواء بصورة جدته التي تسيطر عليه تماما ويزداد حضورها بشكل كثيف في الأحلام. وهكذا تأتي ذروة الأحداث في نهاية العمل حيث يأتي الراوي حلم مشابه لذاك الذي حلمته جدته والذي ينذر باقتراب الموت. "النوافذ الزرقاء" عمل يطل من نافذة الروح علي نفسها في مصائرها المتعددة وتقاطعات الصور التي تقتات عليها، سرد يعي تماما الانتقال من ضبابية الرؤية إلي وضوحها المزعج. الكتاب: أيام النوافذ الزرقاء المؤلف عادل عصمت الناشر: شرقيات
|