رواية قاسم مسعد عليوة تعلي من شأن العقل وترفض العزلة وتفيض بمواجيد وشطحات الصوفية وتتبنى دعاوى الاستنارة.
القاهرة ـ "الغزالة" أحدث إبداعات الكاتب قاسم مسعد عليوة، وصدرت عن مطابع دار الهلال القاهرية ضمن سلسلتها الشهيرة "روايات الهلال".
من المتوقع أن يثير البناء الفني لهذه الرواية جدلاً في الأوساط الأدبية، فهي رواية كما يصفها مؤلفها غير مألوف الروايات، وإن احتوت على العناصر التي تحتويها سائر الروايات. دعَّم المؤلف وصفه هذا بتسجيله إياه برأس الغلاف الداخلي من خلال عبارة هي الأغرب من نوعها، ولعلها المرة الأولى التي تصدر فيها رواية تحمل الوصف الذي وصفها مؤلفها به: "رواية غير مألوف الروايات.. رواية ككل الروايات".
وتتدرج جمل ثلاث في تهيئة القارئ للولوج إلى أبهاء النص. أولى هذه الجُمَل جملة الإهداء، وقد أهدى المؤلف روايته "إلى من يبحثون عما لا يجدون"، وفي هذا إشارة ـ بل إشارات ـ إلى الكد الذي يعانيه الباحثون عن الحقيقة والمُجدِّين في التنقيب عن إجابات عصية لأسئلة الوجود.
الجملتان الأخريان هما جملتان تصديريتان تلفتان الانتباه إلى الاتجاه الذي يريده المؤلف، كل جملة منهما استقلت بصفحة وحدها باعتبارها عتبة من عتبات النص. الجملة الأولى تتناص مع القرآن الكريم في البناء لا الدلالة، وتُعلي من شأن المجاز وتقرنه بالحياة ذاتها: "ولكم في المجاز حياة"، وبالفعل الرواية حافلة بالمجاز، ويكاد يشكل هو والرمز الأساس الجمالي الذي بنيت عليه الرواية؛ والرمز هو ما أشارت إليه الجملة الأخرى كأمر واقع لا مناص من معايشته، وبهذه الجملة يحث المؤلف قارئها على تأمل الرمز وعدم التهرب منه، وإن كان صعباً عويصا، وهي جملة تحمل معاني الطلب والرجاء، مثلما تحمل معاني الأمر والنهي: "لا تخف من العويص.. ولا تفر من الرمز".
وتميز غلاف الرواية الذي صممه الفنان الشهير محمد حجي بغزالتيه الرشيقتين: غزالةٌ أم ورشأ رضيع يمتص اللبن من ضرعها الذي لا يكاد يبين، الأمر الذى يوحي ولا يُفصح، ويفتح أبواب الأسئلة على مصاريعها، فهل هي غزالة واحدة كما يشير العنوان، أم هما غزالتان كما يوضح الرسم؟ وإذا كانتا غزالتين فلماذا اقتصر العنوان على غزالة واحدة؟ وهل للام التعريف دلالة ما؟ وإلى أي معنى يرمي فعل الرضاعة والرواية نفسها لم تشتمل على مشهد كهذا المشهد الغلافى؟ وهكذا.
وقد وفق المؤلف في وصفه الرواية بأنها غير مألوف الروايات فهي لا تشتمل على عُقد كتلك التي اعتاد القارئ أن يُجهد نفسه في سبيل البحث عن حلول لها؛ أو يضطر إلى قياس الحلول، التي قد يقدمها المؤلفون له، على المستقر من المعايير التي استهلكت وخلقت وطالتها يدُ القِدَم، وحبكتها هي الأبسط بين حبكات الروايات المتداولة؛ وهي مقسمة إلى فصول معنونة، وكل فصل يضم عدداً من المقاطع المرقمة. ويكاد يكون كل فصل قصة مستقلة بذاتها؛ بل إن كل مقطع يكاد يكون بدوره قصة وامضة مكتملة الأركان؛ ومع هذا فثمة وحدة عضوية تجمعها كلها وتشد وشائجها إلى بعضها إلى البعض.
وعلى ما تحتويه لغة السرد من بلاغة مستمدة من التراث، فإنها تحتوى أيضاً من مفردات العصر الكثير، الأمر الذي قدم حلاً جمالياً لمشكلة الأصالة والمعاصرة، ورقي التعبيرات المتوجهة وجهة تراثية مثل الزركشات والتوشيات اللفظية التى عادة ما تخفى هشاشة البنية وضعفها، وأضفى على المفردات وثيقة الصلة بالزمن الراهن قدراً من الرصانة لا ينكر.
والرواية مترعة حتى الفيض بمواجيد وشطحات الصوفية، وإنْ اتجهت وجهة مضادة للمفاهيم السائدة في الكتابات التي تتناول الصوفية والصوفيين بإعلائها من شأن العقل ورفضها للعزلة وتبنيها لدعاوى الاستنارة والتقدم، جنباً إلى جنب تناولها لقضايا الحياة ووقوفها أمام أسئلة الوجود.
وعلى الرغم من أن الرواية تحيل إلى الكتابات الصوفية بعنوانها وشخصياتها وبالفيض الإشراقي الذي تتيحه لغتها، فإنها لا تدور في الفلك الصوفي المعتاد في الكتابات التي تنحو ذات المنحى، ولا تتخذ من الصوفية قناًعاً ولا تستغرقها تهويماتها ولا يعتري شخصياتها ما يعتري الصوفيين من أحوال تقف بهم عند حافة الخبال، وإنما هي تستفيد فقط من جماليات المنجز الصوفي لتقدم مفاهيم تنتصر للفكر الرشيد، ولا تزدري الجسد والممارسات الدنيوية.
تجربة جديدة شكلاً ومضموناً تلك التي يقدمها قاسم مسعد عليوة في روايته، ففيها اجتراء صياغى اعتمد تفكيك عناصرها وإعادة نظمها باتجاه خطى مقتحم لآفاق التأويل أفقاً إثر أفق؛ ومع كونها محتشدة بالأحداث والمواقف وتتضمن شخصيات وعلاقات وصراعات، شأنها شأن سائر الروايات، فإن شخصيتين بشريتين فقط، هما شخصيتا المعلم وتلميذه، تحتكران كل فصولها؛ وترافقهما غزالة تكاد تشبه غزالة ابن عربي الصوفي الأشهر في بعض ملامح، غير أنها تختلف عنها في التصرف والمسلك، لتغير المرعى والمرتع.
تستفيد الرواية إذن من المنجز الجمالي الصوفي، ومع هذا لا تتقنع بالصوفية ولا تتلبسها، ولا تقف من الخرافات الملتصقة بها موقف المتبني أو المهادن، وإنما تواجهها وتتجه بها اتجاهاً عكسياً؛ وتعيد شخصية "المعلم"، إلى الأذهان شخصية "زرادُشت" نيتشة، و"نبي" جبران، و"حلاج" عبدالصبور، وشخصيات الصوفيين الإسلاميين العظام، لكن بملامح مختلفة وفي مواجهة قضايا جد مغايرة.
"الغزالة" رواية جديرة بالقراءة، ونتوقع أن تثير جدلاً فى الأوساط الأدبية لاسيما حول بنائها غير النمطي.