First Published 2010-07-19 الرواية في مرحلة الواقعيّة النقديّة
كان على الرواية الجادة بعد عام 1848 أن تتحرك بتيار مضاد منعزل عن طبقتها، حيث تزايدت تناقضات المجتمع الرأسمالي، وكلما ازداد التناقض ـ كما يقول لوكاش في "نظرية الرواية" ـ "تزايد التبرير بوسائل منحطة على تمجيد الرأسماليّة ونشر الأكاذيب الخبيثة لتشويه صورة البروليتارية الثوريّة، وكذلك تكريس الملق والإطراءات حتى أصبحت ميزة من ميزات الأحكام التعسفيّة والقمعيّة التي ينمو في ظلها الزيف والدجل والملق الكاذب والمصلحة الجوفاء"। لقد أضحى المجتمع البرجوازي مجتمع التناقضات واللامساواة، مجتمعاً يستلب الإنسان ويهمشه ويقتل فيه إنسانيته، ومن هنا ينطلق النقد العنيف في نتاج الكتاب الواقعيين، والذي سيشكل الأمر الجوهري في الواقعيّة في قمة تطورها في القرن التاسع عشر، وسيصطلح فيما بعد على هذه الواقعيّة بالواقعيّة النقديّة والتي ستؤشر بعمق التوجه الإجتماعي، وستغدو مرتبطة بشكل أمتن بالسياسة والفلسفة، وستستهدف بأكثر شموليّة القيم الإنسانيّة النبيلة، وكان تعاملها النقدي يمثل انتقاداً حاداً لظروف حياة الإنسان، وعكس مقاومة الإنسان لهذه الظروف، وقد خلقت الواقعيّة النقديّة إمكانات إبداعيّة هائلة في حينه لم يسبق لها مثيل، ولذلك كانت إنجازاتها الفنيّة عظيمة الأهميّة حقاً. من الواضح أن واقعيّة القرن التاسع عشر، والتي كان ظهورها تعبيراً عن الحاجة الإجتماعيّة لفهم طبيعة التبدلات المتسارعة، ونتيجة لظهور علاقات اجتماعيّة وإنسانيّة جديدة، قد خلقت نظرة شاملة هائلة للوجود التاريخي للإنسان، وآماله وخيباته وإحباطاته، وتطلعاته الروحية، وانكساراته وهزائمه وأخطائه، نظرة أشارت بوضح إلى الغوص عميقاً في استكشاف الشخصيّة الإنسانيّة، وحياة الطبقات الدنيا للمجتمع وما تتعرض له من تهميش وإضطهاد. إن رفض القيم الرأسماليّة، وتعريتها والنضال ضدها، سمة من سمات الواقعيّة النقديّة، التي تجلّت في إبداعات أبرز ممثليها بلزاك وستاندال، فبلزاك مثلا أدرك مشكلات مجتمعه في حينه، وقادته واقعيته الشديدة الرصد والملاحظة إلى أن يعرض في رواياته ما يناقض مُعتقداته السياسيّة والدينيّة التي كانت تتصف بالرجعيّة، فهذا الفنان الكبير كان إبداعه يدحض فلسفته، وكانت عبقريته تفند مبادئه، لقد عرّى الرأسماليّة، وكشف عن وجه الإستغلال والإستلاب القبيح، وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلى ما ذكره ماركس في "الأدب والفن في الاشتراكية"، فقد جاء في خطابه إلى الروائية البريطانية مارجريت هاركينس قوله: "كلما تخفّت آراء المؤلف كان ذلك أحسن للعمل الفني، فالواقعيّة التي أقصدها، تتضمنها رواية وتظهر فيها بشكل واضح، رغم أن الكاتب قد لا يكون إشتراكياً، ولأضرب لك مثل بلزاك الذي أعدَّه سيداً من سادة الكتابة الواقعيّة أكبر بكثير من أميل زولا وأضرابه سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ومجموعة قصصه (الكوميديا البشريّة) تأريخ واقعي رائع جداً للمجتمع الفرنسي، وفيها وصف تسجيليّ للأزياء، وصف يكاد يكون سنة بسنة من 1816 إلى 1848، وكل ما طرقته الطبقة البرجوازية من طرق أدت بها إلى التفوق على مجتمع النبلاء، ومنه تعلمت أكثر مما تعلمته من كل المؤرخين والإقتصاديين المحترمين مجتمعين الذين عاشوا تلك الفترة". ويعقد أرنولد هاوزر مقارنة طريفة بين ستاندال وبلزاك مشيراً إلى أن "ستاندال وبلزاك معاً ناقدين قاسيين، بل خبيثين في كثير من الأحيان للمجتمع، غير أن أحدهما نقده من وجهة النظر المتحررة، والآخر من وجهة النظر المحافظة، وعلى الرغم من آراء بلزاك الرجعيّة فقد كان هو الفنان الأكثر تقدميّة، فهو يدرك تركيب مجتمع الطبقة الوسطى بمزيد من الدّقة، ويصف الإتجاهات التي تمارس تأثيرها. فيها وصف أكثر موضوعيّة مما نجده عند ستاندال الذي كان أكثر ثوريّة من الناحيّة السياسيّة، ولكن تفكيره وإحساسه العام كان أشد تناقضاً، وربما كان هذا أبلغ مثل في تاريخ الفن كله، يبرهن بوضوح كامل على أن الخدمة التي يؤديها الفنان للتقدم لا تتوقف على عقيدته وميوله الشخصيّة بقدر ما تتوقف على قوة تصويره لمشكلات الواقع الإجتماعي ومتناقضاته". وكانت جهود فلوبير بعد ذلك سواء في مجال الأعمال الروائيّة أو في نظرية الرواية بارزة، فعلى صعيد المواقف، فقد وقف فلوبير بوجه التبرير والتشويه المنحط والتافه نتيجة لحقده ورفضه للواقع البرجوازي الذي احتقره تماماً، غير أن واقعيّة فلوبير ظلت محكومة بالتناقضات البارزة على السطح ولم تستطع النفاذ للجوهر. لقد عدّت رواية "مدام بوفاري" ـ وكما لاحظ بوريس سوتشكوف ـ دراسة نفسيّة موسعة، لا لوحة للأخلاق، أو دراسة تحليليّة للمجتمع. فقد كان فلوبير، باعتباره الحياة البرجوازية اليوميّة بمثابة قوة روتينيّة تقضي على الإنسان وتشل نشاطه، وتعرقل طموحه إلى السعادة يكمل وصف الآلام المعنويّة لبرجوازيّة صغيرة، تهبط بها الأكاذيب أسفل فأسفل، بوصف العالم المبتذل الضيق الذي تدور فيه أحداث قصته. كل هذا كان يبرز سمات جديدة للفن الواقعي لم تعرفها المرحلة السابقة، وهكذا فإن ماخسره تصوير البيئة الإجتماعيّة عوضه فلوبير بمرونة التحليل النفسي وتنوعه. وكان فلوبير أول من أعلن مبدأ "الكاتب المتخفي" حيث رأى أن على الكاتب أن يغيب تماماً عن عمله، وبين أنه (أي الكاتب) في روايته يجب أن يشابه الإله في الكون، فهو ظاهر في كل مكان ولا يرى في مكان. ونفس هذا الرأي سيكون فيما بعد رأي جيمس في "صورة الفنان في شبابه"، وكما عرفنا فإن ماركس استناداً لفهمه لبلزاك أشار إلى وجود هذا المنحى في قصصه. يمكن القول إن فلوبير أول كاتب يطرح نظريّة في الرواية منهجيّة وقابلة للتطبيق على نطاق واسع، واهتمامها بالوظيفة الخلقيّة للفن، أقل من اهتمامها بعلاقات الأجزاء المكونة للإبداع الجمالي بعضها بعضاً وبين العمل ككل، وقد استبعد فلوبير ثقافة السرد التي تعود إلى العصر الماضي. إن أهم نظرات فلوبير الجماليّة تركزّت حول الإهتمام الواعي بالشكل، وعنده أن فن الناثر أكثر صعوبة من فن الشاعر لأن الشاعر تسنده قواعد معينة، في حين أن الناثر يلزمه إحساس عميق بالإيقاع التائه بدون قواعد مسبقة، بالإضافة إلى الصعوبات الناجمة عن مراعاة النسبة في الأقسام، وإضاءتها وتناغمها، وكيفيّة الإنتقال من قسم إلى آخر. كما لعب النقد دوراً بارزاً في ترسيخ النظرة الواقعيّة في الأدب، فإسهامات مدام دي ستال في تأكيدها على العلاقة المتينة بين الأدب والنظم الإجتماعيّة (البيئة) وتأثير ذلك على الفكر والإحساس والذوق، وكذلك آراء سانت بوف الذي اعتبر النقد علماً إجتماعيّاً، وأعتبر أن العمل الأدبي هو الطريق إلى روح الكاتب ومن خلال روح الكاتب ونفسيته تتجلى روح العصر. هذه الآراء وغيرها أكدت كون الفن تعبيراً جماعياً عن المجتمع. ويأتي زولا ممثلا لما سيعرف بالواقعيّة الطبيعيّة، والتي لا تعدو كونها تطرفاً واقعياً بقصد عكس الواقع كما هو، أي ما يمكن تسميته عكساً فوتوغرافياً جامداً، وواقعية زولا الطبيعيّة اتجاه علمي متطرف يسعى لتطبيق مباديء العلوم الدقيقة على التصور الفني للواقع، وهي تبتعد عن الخيال والعواطف، وتهتدي بالحقائق والقوانين العلميّة، ومن الواضح أن هذا الموقف مُتأت من التأثر بالإنتصارات العلميّة من جهة، ورداً على حركة "الفن للفن" باستنكافها الكامل عن الموقف النفعي للفن، كما أنها رداً على ما اتصف به الفن الأكاديمي الرسمي من ادعاء وصلف وتزييف فني وسياسي للواقع. لقد عبر زولا عن الطبيعيّة بقوله: "إن العلم يدخل إذن في حقل عملنا، نحن محللي الإنسان في عمله الشخصي والإجتماعي في وقتنا الحاضر. نحن نكمل بملاحظاتنا وتجاربنا عمل الفيزيولوجي، الذي أكمل عمل الفيزيائي والكيميائي. وبكلمة واحدة، يجب علينا أن نعمل في الطباع، وفي الأهواء، وفي الحوادث الإنسانيّة والإجتماعيّة كما يعمل الكيميائي والفيزيائي في الأجسام الخام، وكما يعمل الفيزيولوجي في الأجساد الحيّة". من المؤكد أن زولا تغلّب على النزعات الرومانتيكيّة، إذ أراد أن يقيم الرواية على أساس علمي ويحلّ التجربة الواقعيّة العمليّة محل الخيّال والعبثيّة، غير أنه لم يجسّد تجاربه الخاصة في الحياة والصراع، وإنما تناول مشاكل إجتماعيّة ووصفها كما لو كان مُخبراً صحفياً. يتضخ هنا إن ثمة تسطيحا مبالغا فيه في النظرة إلى الإنسان، باعتباره كيانا بيولوجيا، ومظاهر فسيولوجيّة. مثلما حدث تسطيح لدى الإتجاه الآخر، الإتجاه السايكولوجي، الذي جعل الإنسان مجرد عمليات ذهنيّة وسيكلوجيّة. عقد لوكاش مقارنة بين عملين متميزيين، الأول لتولستوي باعتباره ممثل للواقعيّة من خلال روايته "آنا كرانينا"، والثاني لزولا باعتباره ممثل للواقعيّة الطبيعيّة من خلال روايته "نانا". وعكست هذه المقارنة الفرق بين ما سميّ بالواقعيّة الطبيعة، والواقعيّة، حيث تبين مستوى الفرق بين المدرستين فنياً وتعبيرياً. يقول جورج لوكاش "يكفي أن نعقد مقارنة هنا، ما بين سباق الخيل في رواية (نانا) وفي رواية (آنا كرانينا) فنلاحظ أن لدى تولستوي عرضاً ملحميّاً حيويّاً، ابتدأ من الوقت الذي تسرج فيه الخيول حتى يحتشد الجمهور، وهذا العرض الملحمي بأسره هو عمل أشخاص في إطار مواقف محملة بالدلالات في نظرهم. أما عند أميل زولا فهناك وصف أخاذ لحدث ما في المجتمع الباريسي، وهو من وجهة نظر العمل غير مرتبط، إطلاقاً، بمصير أبطال الروايّة الذين لا يشهدون هذا الحدث إلا صدفة، كمتفرجين ولكنهم غير معنيين. ولهذا السبب نرى أن سباق الخيل عند تولستوي هو مرحلة مجسدة على الطريقة الملحميّة داخل عمل الرواية، في حين أنه لدى أميل زولا ليس سوى وصف فقط". إن العالم الموصوف في كل رواية من روايات زولا ليس مبنيّاً على أعمال ملموسة لأُناس ملموسين وفي مواقف ملموسة، بل هو حشد وتجميع لأوصاف متتاليّة لأناس مسطحين. إن منهج الواقعيّة الطبيعيّة، ليس تسطيحاً في النظرة وإنما تسطيح للإنسان ذاته، ومن حيث أرادت الواقعيّة الطبيعيّة الدفاع عن الإنسان، فإنها ابتسرته وحنطته في الإبعاد البيولوجيّة والفسيولوجيّة وبذلك تكون قد قزّمته، ومددته قسراً على سرير مختبراتها. بعد تفكك مدرسة زولا ظهرت النزعة اللاعقلانيّة، وهي نزعة تسعى لتحول الرواية أكثر فأكثر إلى تجميع للصور الفوريّة عن الحياة الداخليّة للناس. وأفضت هذه النزعة في نهايتها وعند بروست وجويس إلى تفكك كلي لكل مضمون وللشكل الروائي. ومن الواضح أن تفكك الشكل الروائي كان مصحوباً بتأثيرات عديدة خارج منطق العمليّة الإبداعيّة وضروراتها، وهذه التأثيرات كانت في الأغلب الأعم رجعيّة، عملت على قطع العمليّة الفنيّة عن أي علاقة عضوية مع المجتمع، والأحداث التاريخيّة. وبهذا المعنى يرتدي قول آرنست فيشر التالي إهمية كبيرة "وجدت جميع النظم الإجتماعية من دافع عنها بقوة ومقدرة في مجال الفن إلا الرأسماليّة، ففي ظلها وحدها نجد الفن كله، فوق مستوى معين من الضحالة، فن احتجاج ونقد وثورة". ولهذا فليس مستغرباً إنه في ظل الرأسماليّة كانت نتاجات من كانوا ينتمون إلى الفئات السيدة، أو الشرائح الوسطى، بمجملها الأعم تتعارض مع الواقع السائد، وما أفرزه هذا الواقع من ظواهر هي في جوهرها تشكل سبباً لاستلاب الإنسان، وحتى مبدأ "الفن للفن" لو تمعنا في جانب من جوانبه العديدة، لوجدناه احتجاجاً صارخاً على الموقف النفعي الصارخ والإهتمامات الكسبيّة اللاإنسانيّة للرأسماليّة. لقد كان الفنان المبدع، وفي كل المراحل، يرفض بإباء أن يكون إبداعه سلعة في عالم أصبح فيه كل شيء سلعة للبيع. تعتمد الواقعيّة النقديّة التي تبلورت في خضم الصرعات في المجتمع الرأسمالي على التحليل الإجتماعي بالأساس، هذا التحليل القائم على دراسة الإنسان ضمن مجتمعه وواقعه باعتباره كائنا يعيش ضمن هذا الواقع وفي إطاره، ولهذا فقد أولت الإهتمام الضروري واللازم بما أفرزه المجتمع الطبقي من مآسٍ وآثام ومظالم، وطغت عليها النبرة الإنتقاديّة التي تصاعدت في مواجهة التناقضات العديدة التي أفرزتها الرأسمالية بحيت أصبحت هذه النبرة الإنتقاديّة هي السمة الأساسيّة لهذا المنهج، الذي رأى أصحابه أن الرأسماليّة صيّرت الوجود الإجتماعي داخل نظامها القائم على الإستغلال وجوداً إجتماعيّاً تناحريّاً ومتصارعاً بامتياز، وكان نتاجها بمجمله كشفاً وتعريّة لهذا النظام، وانتقاداً لاذعاً للأسس التي قام عليها، وفي الجانب الآخر اتخذت التيارات الإنحطاطيّة في الفن، باعتبارها ممثلة لمصالح الرأسماليّة موقفاً عدائياً من الواقعيّة الإنتقاديّة، وشنت عليها هجوماً يعتمد على تسخيف منحاها بقصد إبعاد الأدب عن عكس الواقع الموضوعي الذي ليس فيه ما يزكي نظام الإستغلال واستلاب الإنسان. |