ألم تنقسم البلاد إلى نصفين؟
أحمد رفيق عوض في روايته الجديدة 'بلاد البحر' ينتبذ لنفسه مكانا قصيا عن كل ما هو مستهلك وشعبوي.
بقلم: توفيق العيسى
بحر عكا .. بحرنا .. جسر الغزاة والطامعين والمغامرين؛ بحر عكا بهدوئه وجسده اللامع ينقل لنا حكايا عن أزمنة غابرة ومدافعين وملوك غابرين؛ حصارات؛ نيران؛ هزائم وانتصارات؛ وقديما قالوا "لو خافت عكا من البحر ما جلست على الشاطيء"؛ صرخ رجل ما بوجه أحد أمراء صلاح الدين "خلوا بين عكا والسفن. عكا تعرف كيف تدافع عن نفسها".
قالت امراة ما لأمير آخر "عكا جسد امراة تعرف كيف تغتصب وتعرف كيف تنتقم وتحاسب لن يمتلكها ابن كلب. هذي بلاد يصعب الاحتفاظ بها"، "مولاي وسيدي صلاح الدين" يسمع ويعرف كل شيء نظر إلى الأمراء والتجار المتذمرين رأى سور عكا ينهار وسمع نباح ملوك الأساطيل الأفرنجية في حارات عكا رآهم يتقاسمون المدينة ويتقاسمون العنجهية. رآنا نتصارع مختلفين على أي خد سنضرب، أحدهم قال: نضرب على الخد الأيمن وآخر قال لا على الخد الأيسر، لكن مولاي صلاح الدين همس لنفسه: عكا لم تعد لنا علينا أن نرحل عنها.
همس الملك الأشرف لنفسه "أنا العدل وأنا الانتقام" وأمر جنده "أريد هذي المدينة حية أو ميتة"، "أحرقوا المدينة اغتصبوها انتهكوها".
وقف أحمد رفيق عوض مذهولا مما يسمع "ما الذي يجري؟!" أجابه أبوالفداء: "هذي المدينة يحبها الافرنجي".
أحمد رفيق عوض الروائي الفلسطيني والذي بدء أولى رواياته بمواجهة غير مأمونة العواقب مع أهل قريته إثر إصدار روايته الأولى "العذراء والقرية"، وفي روايته الجديدة "بلاد البحر" انتبذ لنفسه مكانا قصيا عن كل ما هو مستهلك وشعبوي، اقترب أكثر إلى الحقيقة والتحليل النقدي، اقترب أكثر من فلسطين، الأرض والتاريخ والأسطورة، اقترب أكثر من فلسطين التي لم نعد نعرفها، اختار التاريخ مادة لروايته كاشفا أسراره، وكيف تتفاعل الأحداث، وتبنى الممالك وتهدم، كيف تحاصر المدن، وتنهار القلاع، وكيف ينتصر المنتصرون.
وإذا كان العمل التاريخي يفرض على الكاتب والمتلقي شخوصا وأحداثا جاهزة فقد عمل الروائي في رواية "بلاد البحر" إلى اختيار أبطاله بنفسه، فالشخصيات والأحداث لم تخدم الرواية التاريخية فحسب وإنما وظفت في خدمة مشروعه الروائي؛ فالوالد المهزوم الرعوي يتحول "نيصا" يبكي قيسارية والبحر والحبايب الذين مضوا يبكي بحرقة وقهر ذات الحرقة والقهر اللذان يعتملان في صدر الملك الأشرف بن قلاوون الذي تحول إلى ملك منتقم أحرق المدينة بعد انتصاره، وأحرق معها قهره وسنوات الذل وبكاءه الذي يشبه بكاء "النيص".
يأخذنا الروائي إلى الكشف عما يدور بذهن المقهور ومشاعره وكيف "سيتبر ما علو تتبيرا" ذات يوم إذا ما انتصر لا وقت لدينا كي "نقدم نموذجا إنسانيا فريدا" فأعداؤنا لن يسمحوا لنا بذلك، فلو كنا بشرا بنظرهم لما كانوا احتلالا وما كنا مضطهدين.
لا أريد أن أنجرف نحو عرض أفكار الرواية مغفلا "التكنيك" الروائي، فاختيار الحلم أو المنامة، سمح للروائي بأن يتنقل بين المدن والأزمنة والأسطورة يلتقي شخوصا من عوالم مختلفة يسمعهم ويناقشهم، ويبدو أن الروائي استفاد أيضا من تقنية الكاميرا وعمله في مجال الصحافة المتلفزة، ففي بعض مقاطع الرواية والتي يمكن أن نسميها مشاهدا نرى كاميرا تتحرك تصور وتربط بين الكلمة والصورة والأشخاص فتقنية القصة المتلفزة تعتمد على سرد القصة نطقا مع عرض صور مساعدة تدلل على صحة الكلام المنطوق وللمصداقية فإنها تلجأ إلى إجراء مقابلات مع شهود العيان أو أصحاب الاختصاص وأصحاب القصة ذاتها، وقد لجأ الراوي إلى استخدام هذا الأسلوب في بعض المقاطع/ المشاهد الروائية.
"أبو مصطفى هو المسئول عن خلط الأشياء بعضها ببعض وعندما يحدث عن مناماته فإنه يخلط ما يراه في منامه وبين بلاده التي قطعها مشيا على الاقدام. ما الفرق؟!"