لا أحد يصلح لكتابة التاريخ
الضابط للمفتون: لا تحسب أن الوضع اختلف في عهد السادات عن عبدالناصر، على العكس إنه أسوأ بمراحل.
بقلم: سعيد سالم يؤكد الروائي فؤاد قنديل في أكثر من حديث صحافي وتلفزيوني أن روايتي "المفتون"، و"نساء وألغام" هما الجزأين الأول والثاني من ثلاثية عنوانها "المفتون" تحوى سيرته الذاتية كاملة. لا لبس اذن ولا شك في صراحة المؤلف وصدقه، وبالتالي فلا احتمال لسوء فهم أو اعتراض من متضرر قد يرد عليه بأن وقائع العملين وأحداثهما مجرد خيال كاتب، فالكاتب واضح وصريح في اعترافه، فضلا عن أنه ذكر أسماء أفراد عائلته الحقيقية دون أدنى تعديل. رغم ذلك فهو يقول في صفحة 30 من المفتون – وأنا أؤيده تماما في قوله – إنه "لا أحد يصلح أن يكتب التاريخ، لأنه غير موجود ذلك المحايد مائة في المائة". هذه شهادة صائبة تماما، فالطبيعة الإنسانية ترفض الافصاح عن سقطات مشينة يصعب حكيها على الملأ في نص معنون بأنه سيرة ذاتية، وان كان من الممكن حكيه خلال عمل روائي عادي، كما فعل نجيب محفوظ الذي عرفنا جميعا أنه كمال عبدالجواد في الثلاثية، وكما فعل جمال الغيطاني في الأسفار والألم والتجليات دون أن يصرح بأنها سيرة ذاتية رغم ورود اسمه واسم أبيه واسم أمه في العمل. إنها حقا قضية شائكة وغالبا ما تسفر عن مشاكل عائلية عديدة قد تصل إلى درجة القطيعة بين الكاتب وأهله وأحيانا أقاربه أو أصدقائه ممن وردت أسماؤهم في العمل، كما حدث مع لويس عوض واحسان عبدالقدوس وغيرهما من مشاهير الكتاب الذين نقلوا الواقع نقلا مباشرا بكل ما يمتلكون من موهبة ومهارة أدبية. في صفحة 120 من المفتون، وفي معرض حديثه عن حماته وتعمده إخفاء إعجابه الغامض بها، يواجه الكاتب نفسه قائلا لها: "توقفي يا لعينة، فليس كل شيء يقال، وما هى إلا ظنون أربأ بك أن تسمحي لها أن تخطر على بالك أو تتغذى على أهوائك. فكونى كما عهدتك غير أمارة إلا بالخير". وتتكرر مجابهته الحاسمة الحازمة لنفسه عدة مرات كلما شعر أنه يريد أن يخفي شيئا يخجل من ذكره، خاصة فيما يتعلق بقصة زواجه الغريبة التي تعرض فيها لمهانة شديدة لم يتورع عن ذكر تفاصيلها بشجاعة فائقة. الأمر الذي يدعونا إلى التفكير في الهدف الكامن عند الكاتب من وراء ذكر هذه التفاصيل. من المؤكد أن رغبته الأساسية هي نقل تجربة إنسانية للقارىء، هو ملم تماما بكل دقائقها ورقائقها باعتبارها حدثت له أو معه، وكان من الممكن أن تحدث لغيره فيرويها عنه بنفس التفاصيل، لكن المؤكد أن درجة الصدق ستكون أعلى حين يكون هو صاحب التجربة، وكأنه يتوجه إلى القارىء محذرا إياه كي لا يقع فيما وقع فيه هو من أخطاء حياتية خطيرة يذكرها دون تحفظ، ولأن القارىء يعلم مسبقا أنها سيرة ذاتية، فسوف يكون تصديقه للتجربة غير قابل للشك، وبالتالي ستكون استفادته من تجربة الكاتب استفادة حقيقية مباشرة، ربما تكون سببا في تغيير مجرى حياته بالكامل. يتضح لنا من الرواية أن فؤاد عنيد في الحق، متمسك بحقه مهما بلغ الثمن المدفوع، كرامته – كما يقول عنها عمه – على طراطيف مناخيره. وهو كما وصف نفسه لرئيسه ص 144 في المفتون: "إنني لا أخضع للابتزاز ولا أسمح بالاستغلال سواء من البشر أو الكلاب!". كما تتجلى من بين السطور خفة ظله كإنسان من جهة، وكاتب من جهة أخرى، ولا عجب فهو الكاتب وهو الإنسان أيضا. ولأن فؤاد متمكن من أدواته الفنية فهو يدمج العام بالخاص حتى لا ينفر منه القارىء من جهة، ومن جهة أخرى حتى يأخذ العمل أبعادا أكبر وأوسع من البعد الشخصي مهما كانت تجاربه ثرية موحية. على سبيل المثال فقد تناولت المذكرات قضية طال الجدل فيها رغم مرور أربعين عاما على وفاة صاحبها وهو الزعيم المحبوب جمال عبدالناصر. لقد استطاع فؤاد رغم انحيازه العاطفى الشديد لجمال عبد الناصر، أن يقنعنا بموضوعية بكل إيجابيات عبدالناصر الرائعة دون أن يغفل عن ذكر أخطائه الخطيرة، وقد تم ذلك في السياق الطبيعي لأحداث الرواية دون تعسف أو افتعال. ومن نفس المنطلق تطرق إلى قضايا إنسانية عديدة كالعلاقة بين الدين والفلسفة، وبين الدين والفن، ومسألة الجبر والاختيار عند الإنسان، والتي حدد وجهة نظره بشأنها تحديدا قاطعا قد يتفق معه البعض وقد يختلف معه بشأنه. فهو يقول ص129 في المفتون: "أوشكت على الإدراك أنه لا أحد مخير إلا في أقل القليل وأننى حر فعلا، لكن في إطار العناية الالهية وبالصدام مع الآخرين. صدام التوقيت والمصالح والأفكار والأهواء، بل الأحلام والآمال. وفي ضوء المشاعر والأحاسيس المركبة والموروث والظروف. الآخرون هم قيودي وليس الله". ولو أنه استدعى بذاكرته مقولة الإمام الغزالى في إحياء علوم الدين لوجده قد حسم المسألة في صيغة شديدة الاقناع والإيجاز حين قال: "إن الإنسان مخير فيما يعلم مسير فيما لا يعلم". وتبدأ أحداث الجزء الثاني من الثلاثية في 11 سبتمبر/أيلول من عام 1981 وتستمر بقية الأحداث على صورة فلاش باك حتى قرب انتهاء الرواية، حيث يقول ص252 في "نساء وألغام": "إذن فقد صدمتني سيارة بينما كنت أحاول جاهدا الهروب من مطاردة رجال أمن الدولة. كانت السيارة المجنونة تنزلق باندفاع شديد من فوق كوبري 15 مايو.."، حتى يختم الرواية بحادث المنصة. وما بين البداية والنهاية يروي لنا قصة خروجه من مصر بعد قراره الغاضب الحاسم بألا يتزوج من هند بعد كل ما بذله لأجلها من وقت ومال وجهد وحب وتنازلات لا حصر لها. ويوضح لنا قنديل وجهة نظره في الزواج ص104 في "نساء وألغام" بقوله: "الرجل ليس الروح دائما وليس الجسد، والمرأة كذلك. إذن فالزواج ليس زواج المرأة بالرجل، ولكن زواج الواقع والمثال، أو الأخلاق والشهوة، أيا كان موضعهما". وتتعدد أسفاره من ليبيا – التي دخلها بمغامرة مثيرة تدل على جرأته وقوة أعصابه رغم ما نعرفه عنه من هدوء شديد وأدب جم - إلى سوريا ولبنان، وإلى أكثر من دولة أوروبية، متعرضا للفوارق الخطيرة، بين الحرية والديموقراطية اللتين تتمتعان بهما شعوب العالم الغربى، وبين ما يعانيه العالم العربي من قهر وتسلط على يد حكامه. حيث يقول له ضابط الأمن بكل صراحة تعقيبا على اندفاعه الثوري المجنون بمخاطبة السادات في رسالة مباشرة يعترض فيها على ما أسماه بالمصائب الأربعة، وهي: - الشعار الكارثة بأن 90% أو ربما 99% (لم يحددها الكاتب) من أوراق اللعب في يد أميركا. - الانفتاح العشوائي - ضرب الشيوعيين بالإخوان والجماعات. - محاولته الجادة والملحة لتغيير الدستور. يقول له الضابط: "لا تحسب أن الوضع اختلف في عهد السادات عن عبدالناصر، على العكس إنه أسوأ بمراحل. دعك من تمثيلية حرق الأشرطة وهدم وإغلاق بعض السجون، كل شيء كما هو. كانت هذه خطة لهدم عبدالناصر وليس السجون، وسوف تظل مصر كما هي لقرن على الأقل، وإن اختلفت الأساليب". كما تعرض لذكر الفوارق بين الجمال الذي تسعد به الأعين في أي ميدان أوروبي أو حديقة أو كنيسة أو متحف أو مساكن تحضنها الطبيعة الخلابة، وبين ما هو كائن بالقاهرة، حيث يقول ص 105 "أرى المصريين الآن بالملايين يهجمون على القاهرة المهيضة يخرجون جميعا وفي وقت واحد كميات هائلة من النفايات والغضب والكوابيس والغوغائية والألسنة الملوثة والصراخ، ويلقونها على وجه المدينة المعذبة". ورغم ذلك فهو دائم الحنين إلى أحضان قريته ووطنه وأهله وأصدقائه. يستحضرهم جميعا وهو في ذروة المتعة أو المعاناة. وتبقى تلك المقدمة الجميلة لثلاثيته والتي أرى أنها كانت ضرورية لمثل هذه الحالة الخاصة من الكتابة الروائية، رغم رفضي التام لأية مقدمة يشرح فيها روائي عمله، فالمسألة هنا مختلفة تماما. سعيد سالم ـ روائي مصري